خالد الشاعر.. في ممرات الذاكرة "يومًا كنا هنا"

الفجر الفني

خالد الشاعر
خالد الشاعر


"هل كنت أتخيل يومًا ما أنني سأكون في الطريق إلى فلسطين"، جملة جعلتني أركض مسرعة لأرى قائلها، من هذا الذي في طريقه للأرض المباركة ؟.

ورأيت خالد الشاعر بنبرة صوته المليئة بالشجن وعينيه الحزينة التي تُخفي الكثير والكثير مما رآه وعايشه في الأرض الطاهرة، تُرى أي ريح حملتك إلى هناك ؟ وكيف ؟ ولماذا ؟ وجائتني الإجابة "محبوب العرب".

 

نبضات قلبه المتسارعة، أنفاسه المتقطعة، أشعر بها وكأنني أنا من وطأت قدماي أرض الأنبياء، أنظر إليه في ترقب وهو يراقب من حوله، في عينيه العديد من التساؤلات، مزيج من الخوف والرهبة.

وسط الحجارة وأمام الجدار يقف ليسأل نفسه هل هذه هي الأماكن التي نشاهدها على شاشات التلفاز؟، هل هنا وقع واستشهد الالاف من أبناء الوطن؟، هل أسير الآن مكان أجساد خضبت الأرض بدمائها فأكسبتها لونها القرمزي؟.

يرى الحياة أمامه في أطفال يلعبون، ورجال إلى العمل ذاهبون، وفتيات تبتسمن في خجل وهن ينظرن إليه ويتهامسن "أليس هذا خالد الشاعر الإعلامي البحريني، ترى ماذا يفعل هنا؟"، فيبتسم خالد من عفويتهن ويسبح عقله في هذا الوطن الغريب، في الشخصية الفلسطينية الفلسفية المليئة بالتعقيدات من كثرة ماعايشوه ومايعايشوه سواء كانوا في الداخل أم لاجئين في الشتات.

 

ساعات من الإنتظار حتى وصل محمد عساف ليبدأ التصوير، برنامج "رحلة أيدول" .. نعم إنها رحلة محبوب العرب، وهنا ابتسمت وتذكرت لقائي بخالد في القاهرة، تذكرت حديثه عن البرنامج بحماس شديد، كيف كان يشعر به وكأنه وليده الذي ينتظر بشوق خروجه من رحم أمه، كيف كان يهتم بأدق التفاصيل حتى لو كانت صغيرة وغير مرئية، يقف وسط الجميع شاردًا في أفكاره المتزاحمة، يسأل نفسه " هل سيخرج وليدي إلى النور؟"، "هل سيتعايش معه الجميع مثلما عايشته أنا في كل لحظة منذ كان مجرد فكرة؟".

 

كنت في هذا اليوم، اليوم الذي يفصلنا عن حفل ختام مهرجان الموسيقى العربية الرابع والعشرون، اعتدت على حضور بروفات الفنانين، وقفت في ملل شدبد أنتظر وصول عساف الفلسطيني الذي يتحاكى العالم بصوته، ولكن ماهذا ! جيش من الكاميرات ورائه، أمر غريب لم أعتده داخل الأوبرا، فضولي كاد يقتلني، مالسر وراء هذه الضجة؟، عيناي كادت تفضحني فالتزمت الصمت ووقفت لأراقب مايحدث في هدوء شديد.

 

ممر طويل نقف فيه على باب القاعة الواقعة بها بروفات عساف، نلتقط صوته من الخارج وننتظر إنتهائه لإجراء حوار معه، ولكن يلفت إنتباهي شاب وسيم يقف في الجوار يشعل سيجارةً تلو الأخرى، ويقبض على فنجان القهوة بأنامله، انحنيت على صديقتي "ميرنا" وقلت "وجهه مألوف من هو ياترى؟، فردت قائلة "بالفعل رأيته على شاشات التلفاز ولكن من هو وعلى أي قناة لا أتذكر".

" لا أستطيع الإنتظار" تقدمت نحوه بإبتسامتي المعهودة وقلت "مرحبًا أنا شيماء احمد صحفية وهذه صديقتي ميرنا، أتعلم وجهك يبدو مألوفاً لي لقد رأيتك مسبقًا في التلفاز ولكن لا أتذكر أين، كما أنك لم تكن على هذه الحالة، فضحك وبلكنة خليجية رد " كيف كنت إذًا؟"

بالزي الخليجي على ما أعتقد، نعم.. تذكرت أنت إعلامي على شاشة ام بي سي

نعم أنا خالد الشاعر مقدم برنامج صباح الخير ياعرب أنتِ ماذا تفعلين هنا؟

أنا هنا لتغطية المهرجان، أتواجد بشكل يومي، مهلًا.. ماذا تفعل أنت هنا؟ أظنك وراء هذه الكاميرات

بإبتسامة هادئة ورشفة من فنجان القهوة يرد "نعم أعمل على تصوير برنامج جديد مع محمد عساف"

ولمعت عيناي "برنامج جديد، ماهو ياتُرى؟"، ولمس خالد مابداخل عيني وقال "عذرًا شيماء أنتِ صحفية على كل حال لن أستطيع كشف البرنامج لكِ"

بالطبع ولكن على الأقل نبذة مختصرة عنه

حسنًا إنها فكرة جديدة سأرافق فيها عساف في العديد من البلدان نتحدث عن شئ مثل تلفزيون الواقع

اممم وماهي الأماكن التي ستزوروها في مصر؟

يضحك ويتوجه بالحديث إلى ميرنا " هل هي هكذا دائمًا لا تتوقف عن الكلام والبحث وراء الأشياء الخفية؟"، فترد ميرنا بإبتسامة هادئة "نعم هذه هي شيماء لن تفلح في إيقافها عن معرفة شئ إذا أرادت معرفته والعبث ورائه، فهي جهاز المخابرات بعينه".

وهنا لم يتمالك خالد نفسه من الضحك وقال " حسنًا سنستقل مركبًا بالنيل وبعدها من المحتمل أن نزور شارع المعز، إذا أردتم يمكنكم القدوم ومشاهدة التصوير في المعز".

 

"خالد ممنوع التصوير داخل البروفة، هكذا يقول رجال الإعلام بالأوبرا"، بصوت جهوري اقتطع حديثنا أحد أعضاء فريق عمل البرنامج بهذه الجملة، والتي كانت كفيلة لتجعل خالد يطفأ سيجارته ويمشي بخطوات مسرعة ليفهم مايحدث.

كان يحاول إرتداء ثوب الهدوء، ولكن عينيه تفضحه فالخوف والغضب بدأوا بتملكه من أن يفسد التصوير داخل الاوبرا وهي من أهم المحطات في رحلة عساف، كنت أعلم ماهو شعور أن يحاول أحد إفساد ماجاهدت طويلاً لأجله، ولكن التصميم داخل عينيه ونظرة التحدي جعلتني ابتسم فهذا الشاب لن يهدأ ريثما يفعل مايريد، وبالفعل ماهي إلا دقائق حتى عاد وإبتسامة الظفر ترتسم على شفتيه، علمت حينها أنه استطاع إقناع إدارة الأوبرا بالتصوير وهذا شئ نادر الحدوث أن تُكسر القوانين لأجل أحد مهما كان، وكان من الواضح أن عزيمة هذا الشاب أقوى من القوانين.

وعاد بعدها ليكمل الحديث معنا " أظن أنكم معروفون هنا، تمرون بين الممرات بحرية شديدة، يتحدث معكم الجميع ويلقون التحية، هل تبيتون هنا؟ بإبتسامة قالها وهو يشعل سيجارته التي مللت من حصر كميتهم فهو مدخن شره للغاية، ورددت بخفة ظل " نعم فانا يوميًا هنا أتابع أخبار الأوبرا حتى اصبحت منزلي، هل تريد أن اصطحبك بجولة داخل المنزل؟".

فضحك بشدة وكأنه يقول في قرارة نفسه "ألن يستطيع أحد التغلب على هذه الفتاة؟".

 

في اليوم التالي قابلته وراء الكواليس قبل بدء الحفل بساعات، ابتسم ولوح لي من بعيد فاختفيت عن الأنظار لأراقبه في صمت، هدوء غريب يتملك هذا الشاب الهدوء الذي يصحبه ثورة في داخله، طريقة إشعاله لسيجارة تلو الأخرى وإيماءات وجهه ونظرات عينيه التي تراقب من حوله تبرز مدى التوتر الذي يعيشه، عقله المزدحم بالأفكار، ماذا سيفعل في المحطة القادمة؟ العقبات التي تواجه البرنامج، العديد من التساؤلات تدور في عقله مع صوت يقطع حبل أفكاره " على جميع أعضاء الفرقة التواجد على خشبة المسرح، الحفل يبدأ بعد دقائق".

 

هذا يومي معك، يوم مررت من هنا لتضع بصمتك في ذاكرتي، فالطبيعي أن يمر عليك يوميًا العشرات من الوجوه، تجد نفسك في النهاية أمام حصيلة من الملامج لا تتذكر معظمها، يبقى فقط من يعلق بشخصيته في ذاكرتك البالية.

ومن هذا الممر مر أمام عيني المئات من الوجوه ولكن وجه وحديث هذا الشاب وسيجارته المشتعلة دائمًا ظل عالقًا في ذهني حتى استدعته جملة "هل كنت أتخيل يومًا أنني سأكون في الطريق إلى فلسطين".. نعم أدرك الآن أن الإنسان كما وصفه الدرويش، أثر الفراشة فيه لا يزول.. وأثرك أيها الشاب في لم يزل حاضرًا.