تفسير الشعراوي للآية 27 من سورة النساء

إسلاميات

الشيخ محمد متولي
الشيخ محمد متولي الشعراوي


{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)}.

سبحانه قال في الآية السابقة: {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ}، وبعد ذلك يقول: {وَيَهْدِيَكُمْ}، وبعد ذلك: {يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}، وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}، فلماذا جاء أولا ب {يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} وجاء هنا ثانيا ب {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}؟

نقول: التوبة لابد أن تكون مشروعة أولا من الله، وإلا فهل لك أن تتوب إلى الله من الذنب لو لم يشرع الله لك التوبة؟ أتصحُّ هذه التوبة؟ إنه سبحانه إذن يشرع التوبة أولا، وبعد ذلك أنت تتوب على ضوء ما شرع، ويقبل هو التوبة، وبذلك نكون أمام ثلاث مراحل: أولا مشروعية التوبة من الله رحمة منه بنا، ثم توبة العبد، وبعد ذلك قبول الله التوبة ممن تاب رحمة منه سبحانه إذن فتوبة العبد بين توبتين من الرب: توبة تشريع، وتوبة قبول.

{والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}، ما دام سبحانه قد شرع التوبة أيشرعها ولا يقبلها؟! لا، فما دام قد شرع وعلمني أن أتوب فمعنى ذلك أنه فتح لي باب التوبة، وَفْتَحُ باب التوبة من رحمة العليم الحكيم بخلقه؛ لأن الحق حينما خلق الإنسان زوده دون سائر الأجناس بطاقة من الاختيارات الفاعلة، أي أن الإنسان يستطيع أن يفعل هذه أو يفعل تلك، وجعل أجهزته تصلح للأمر وللنهي، فالعين صالحة أن ترى آية في كون الله تعتبر بها، والعين- أيضا- صالحة أن تمتد إلى المحارم. واللسان صالح أن تسب به، وصالح أن تذكر الله به قائلا: لا إله إلا الله وسائر أنواع الذكر. واليد عضلاته صالحة أن ترفعها وتضرب بها، وصالحة لأن تقيل وترفع بها عاثرا واقعاً في الطريق.

هذا هو معنى الاختيار في القول وفي الفعل وفي الجوارح، فالاختيار طاقة مطلقة توجهها إرادة المختار، وإذا نظرت إلى اليد تجد أنك إذا أردت أن ترفعها، فإنك لا تعرف شيئاً عن العضلات التي تستعملها كي ترفع اليد، فالذي يرفع يده ماذا يفعل؟ وما العضلات التي تخدم هذا الرفع؟ وأنت ترى ذلك مثلاً في الإنسان الميكانيكي أو تراه في رافعة الأثقال- الونش- التي ترفع الأشياء، انظر كم عملية لتفعل ذلك؟ أنت لا تعلم شيئاً عن هذه المسألة في نفسك، لكنك بمجرد أن تريد تحريك يدك فأنت تحركها وتطيعك. وعندما يريد المهندس أن يحرك الإنسان الآلي فهو يوجهه بحسابات معينة ليفعل كذا وكذا، أما الإنسان فيحرك اليد أو القدم أو العين بمجرد الإرادة.

والحق حين يسلب قدرة الإنسان- والعياذ بالله- يصيبه بالشلل، إنه يريد فلا تنفعل له اليد أو غيرها ولا يعلم ما الذي تعطل إلى أن يذهب إلى الأطباء ليبحثوا في الجهاز العصبي، ويعرفوا لماذا لم تنفذ أعصابه الأوامر، إنها عملية طويلة.

إذن فالإنسان- عندما يريد الحركة- يوَجِّه الطاعة المخلوقة لله فقط، فليس له فعل في الحقيقة، فأنا إنْ أثابني الله وجازاني على طاعة فذلك لأنيّ وجهت الآلة الصالحة للفعل إلى عمل الخير، وعندما تسمع أنه لا أحد بيده أن يفعل شيئاً فهذا صحيح؛ لأن أحداً لا يعرف كيف يفعل أي شيء، إنه فقط يريد، فإن وجهت الطاقة للفعل فهذا عملك أنت. فمعنى الاختيار- إذن- أن تكون صالحاً للفعل ومقابل الفعل وهو الانتهاء والترك.

وعندما يبين الحق سبحانه وتعالى لك وينزل لك المنهج الذي يقول لك: وجه طاقتك لهذه ولا توجهها لهذه، معنى ذلك أن طاقتك صالحة للاثنين. إذن فأنت مخلوق على صلاحية أن تفعل وألا تفعل، وما تركه المنهج دون أن يقول لك فيه (افعل) ولا (تفعل) فإن فعلته على أي وجه لا يفسد به الكون ولا تفسد به حركة حياتك فهذا هو المباح لك.

وحينما شرع الحق سبحانه التوبة أوضح: أنه إذا انفعل مريد لعمل شيء فوجه طاقته لعمل شيء مخالف، قد تكون شهوته أو شٍرّته قد غلبت عليه، فتوجه في ساعة ضعف إلى عمل شرّ؛ لذلك شرعت التوبة لماذا؟ لأننا لو أخرجنا هذا الإنسان من حظيرة المطيعين بمجرد فعل أول عمل شرّ لصارت كل انفعالاته من بعد ذلك شروراً، وهذا هو الذي نسميه (فاقداً)، فيشرع الحق: إن فعلت ذنباً فلا تيأس، فنحن سنسامحك ونتوب عليك.

فساعة شرع الله التوبة رحم المجتمع من شراسة أول عاصٍ، فلو لم تأت هذه التوبة لكثرت المعاصي بعد أول معصية. ومقابل قول الحق: {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} وتنبيهه أن الذنوب التي فعلت قبل ذلك يطهرك منها بالتوبة، مقابل ذلك الذين يتبعون الشهوات ويريدون منك أن تأتي بذنوب جديدة؛ لذلك يقول الحق سبحانه: {وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات أَن تَمِيلُواْ} والميل هو ملطق عمل الذنوب. إنك بذلك تميل عن الحق؛ لأن الميل هو انحراف عن جادة مرسومة لحكيم، والجادة هي الطريق المستقيم.

هذه الجادة من الذي صنعها؟ إنه الحكيم.. فإذا مال الإنسان مرة فربنا يعدله على الجادة مرّة ثانية، ويقول له: (أنا تبت عليك)، إنه سبحانه يعمل ذلك كي يحمي العالم من شرّه، لكن الذين يتبعون الشهوات لا يحبون لكم فقط أن تميلوا لمرّة واحدة، بل يريدون لكم ميلاً موصوفاً بأنه ميل عظيم. لماذا؟.. لأن الإنسان بطبيعته- كما قلنا سابقاً- إن كان يكذب فإنه يحترم الصادق، وإن كان خائناً فهو يحترم الأمين، بدليل أنه إن كان خائناً وعنده شيء يخاف عليه فهو يختار واحداً أميناً ليضع هذا الشيء عنده.

إذن فالأمانة والصدق والوفاء وكل هذه القيم أمور معترف بها بالفطرة، فساعة يوجد إنسان لم يقو على حمل نفسه على جادة اليم، ووجد هذا الإنسان واحداً آخر قدر على أن يحمل نفسه على جادة القيم فهو يصاب بالضيق الشديد، وما الذي يشفيه ويريحه؟ إنه لا يقدر أن يصوِّب عمله وسلوكه ويقوّم من اعوجاج نفسه؛ لذلك يحاول أن يجعل صاحب السلوك القويم منحرفاً مثله، وإن كانت الصداقة تربط بين اثنين وانحراف أحدهما فالمنحرف يستخذي أمام نفسه بانحرافه، ويحاول أن يشد صديقه إلى الانحراف كي لا يكون مكسور العين أمامه. وهو لا يريده منحرفاً مثله فقط بل يريده أشد انحرافاً؛ ليكون هو متميزاً عليه. إذن فالقيم معترف بها أيضاً حتى لدى المنحرفين، واذكروا جيداً أننا نقرأ في سورة يوسف هذا القول الحكيم: {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} [يوسف: 26].

هم في السجن مع يوسف، لكن لكلٍ سبب في أنَّهم سجنوه، فسبب هؤلاء الذين سألوا يوسف هو أنهم أجرموا، لكن سبب وجود يوسف في السجن أنه بريء والبريء كل فكره في الله، أما الذين انحرفوا ودخلوا معه السجن عندما ينظرون إليه يجدونه على حالة حسنة، بدليل أن أمراً جذبهم وهمّهم في ذاتهم بأن رأوا رؤيا، فذهبوا لمن يعرفون أنه إنسان طيب برغم وجوده معهم في السجن، فقد أعجبوا به بدليل أنهم قالوا له: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين}. ومن يقول: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} لابد أن تكون عنده قدرة على تمييز القيم، ثم قاسوا فعل يوسف عليها فوجدوها حسنة، وإلا فكيف يُعرف؟. إذن فالقيم معروفة عندهم، فلما جاء أمر يهمهم في ذاتهم ذهبوا إلى يوسف.

ومثال ذلك: هناك لص لا يمل من السرقة ولا يكف عنها، وبعد ذلك جاء له أمر يستدعيه للسفر إلى مكان غير مأمون، فاللص في هذه الحالة يبحث عن إنسان أمين ليقضي الليل عنده ولا يذهب للص مثله. إذن فالقيم هي القيم، وعندما قال أصحاب يوسف في السجن: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين}، استغل سيدنا يوسف هذه المسألة ووجدهم واثقين فيه فلم يقل لهم عن حكايتهم ابتداء ويؤول لهم الرؤيا، بل استغل حاجتهم إليه وعرض عليهم الإيمان قال: {ياصاحبي السجن أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} [يوسف: 39].

لقد نقلهم من حكايتها لحكايته، فما داما يريدان استغلال إحسانه فلماذا لا يستغل حاجتهما له ويعظهما ويبشرهما بدين الله؟ وكأنه يقول لهما: أنتما جئتما إلي لأنكما تقولان إنني من المحسنين. وأنتما لم تريا كل ما عندي بل إن الله أعطاني الكثير من فيضه وفضله، ويقول الحق على لسان يوسف: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 37] أي أن يوسف الصديق عنده الكثير من العلم، ويقر لهما بفضل الله عليه: فليس هذا العلم من عندي: {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي} [يوسف: 37].

وبعد ذلك يدعوهما لعبادة الإله الواحد كي يستنجدا به بدلاً من الآلهة المتعددة التي يتخذانها معبودا لهما وهي لا تضر ولا تنفع. {أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} [يوسف: 39].

إذن فالقيم واحدة، والله يريد أن يتوب عليكم، ولكن الذين يتبعون الشهوات يريدون أن تميلوا ميلاً عظيماً، حتى لا تكونوا مميزين عليهم تميزاً يحقّرهم أمام أنفسهم، فهم يريدون أن تكونوا في الانحراف أكثر منهم، لأنهم يريدون أن يكونوا متميزين في الخير أيضاً ويقولون لأنفسهم: (إن كنا شريرين فهناك أناس شرٌّ منا).

ثم يقول الحق سبحانه: {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ...}.