مذكرات الريحاني الجزء الثاني

منوعات

بوابة الفجر


"الريحانى" يكتب مازجاً فى كلماته بين الجدية والسخرية، أسلوبه الذي ظهر به أمام الشاشة لم يتغير عن حياته التي أيضاً كانت ممزوجه من البؤس وساعات الفرح القليلة، كثير من سنوات صعدت به الي السماء، ولكن سرعان ما هبطت به إلى قاع الأرض، وللعجيب انه يروي مسيرة أيامه ويذكر فيها أخطائه دون خجل، حتي في حبه للنساء.

النساء في حياته
"لوسى دى فرناى" صديقته وشريكة حياته وأم ابنته "جينا"، "بديعة مصابنى" زوجته الأولى، "جوزفين بيكر" المطربة السمراء ذات الأصول الأمريكية، ومثلت معه عدداً من المسرحيات بالفرنسية وأحبها

يقول فى مقدمة المذكرات
(قبل أن أسمح لنفسى بنشر مذكراتى فكرت فى الأمر كثيرا لا لشىء إلا لأننى خلقت صريحا لا أخشى اللوم فى الحق ولا أميل إلى المواربة والمداراة، فهل يا ترى أظل فيما أكتب متحلياً بهذه الخليقة؟ أم يدفعنى ما درج الناس عليه من مجاملة إلى عدم المواجهة والتهرب؟).
ثم يأتي بقراره بالمصراحة التي هي بالطبع وليست بعيده عنه
(آليت على نفسى أن أقول الواقع مهما حاقت بى مرارته وأسجل الحقائق مهما كان فيها من ألم ينالنى قبل أن ينال غيرى ممن جمعتنى بهم آية جامعة وربطتنى بهم أقل رابطة).

نشأته
ومن شهادة تعميده فى الكنيسة التى تمت فى مايو عام ١٨٩٠، تشير إلى أن عمره كان وقتها عاماً وثلاثة أشهر وهو ما يعنى أنه من مواليد فبراير ١٨٨٩ فى حى باب الشعرية بالقاهرة لأب عراقى مسيحى وأم مصرية مسيحية.

خريج "الفرير" ولم يغادرها، كما يقول، إلا بعد أن نال منها "المؤونة" الكافية من تعليم وخبرة، ومن ملاحظة أبوه لحبه للشعر و الأدب جاء له بشيخ يدعى "بحر" لتزويده بمهارات إلقاء الشعر ونبرات التمثيل، وفى سن الـ١٦ مات والد الريحانى وكان عليه أن يلتحق بأى عمل للإنفاق على أسرته، حيث كان أبوه قرر أن يترك ما جمعه فى الدنيا قبل رحيله لابنة شقيقته اليتيمة.

لقائه بعزيز عيد
 ثم التحق الريحانى بالعمل فى البنك الزراعى الذى التقى فيه "عزيز عيد"، الذى دعم عشق الريحانى للتمثيل وبخاصة التراجيدى دون الكوميدى، كان يمارس التمثيل أثناء ساعات العمل حتى كان يوم دخل عليه المدير فقرر رفته، وكانت أول رواية مسرحية يشارك فيها بعنوان "الملك يلهو".

رجع للفن مره أخرى
بعد تركه للبنك الزراعى لم يجد الريحانى مأوى له سوى قهوة الفن، حتى التقى "أمين عطا الله"، وكان ممثلاً سوريا جاء لمصر فعرض عليه أن يسافر معه للإسكندرية للتمثيل فى فرقة أخيه "سليم عطا الله"، التى كانت تحظى بعطف البلدية التى تمنحها إعانة مالية، ليقبل الريحانى العرض مباشرة مقابل راتب شهرى قدره ٤ جنيهات، وكان أول مرتب ذى قيمة يتقاضاه من التمثيل.

ويحكى الريحانى (كانت الفرقة تعتزم تمثيل رواية (شارلمان الأكبر) وكان العرف يقضى أن يُسند دور البطولة إلى مدير الفرقة بينما أسند لى الدور الثانى وهو دور شارلمان نفسه، وتهيأت لى الفرصة التى كنت أرقبها من زمن فى أن يسند لى دور فى إحدى الدرامات، وفى نهاية الفصل الثالث من الرواية مشهد رائع وحوار بديع بين شارلمان وبطل الرواية، أجهدت نفسى فى أداء المشهد وبذلت قصارى جهدى فكان لى ما ابتغيت إذ حالفنى الحظ بشكل لم أكن أنتظره، حتى لقد أفهمنى الكثيرون أننى طغيت على البطل نفسه، وحين أسدل ستار هذا الفصل هالنى أن جمهرة من الفضلاء والأدباء وأغلبهم من أصدقاء مدير الفرقة صعدوا إلى المسرح، وقابلوا المدير فى غرفته وطلبوا استدعائى وأجزلوا فى تهنئتى ونصحوا المدير بالاحتفاظ بى، لأننى على حد قولهم سأكون ممثلاً لا يشق له غبار، وفرحت بل ظقطط بعد هذا المديح، الذى انهال على من حيث لا أحتسب، وفى صباح اليوم التالى استدعانى المدير، فقلت يا واد جالك الفرج وظللت أخمن وأحذر مقدار العلاوة التى سيتحفنى بها، حبكت أزرار جاكتتى ودخلت على مديرى باسما متهللا معللا نفسى بالآمال، قائلاً فى نفسى: (يكفينى أن تكون العلاوة جنيه واحد وخلينى لطيف).، وبعد هذا الحوار الظريف الذى دار بينى أنا نجيب الريحانى وبين نفسى التى هى أمارة بالسوء، بادرنى المدير قائلاً: متأسف جداً يا نجيب أفندى لأن الفرقة استغنت عنك،  يا نهار زى الحبر يا ولاد.. استغنت عنى، وهل يعتبر النجاح جرماً يعاقب عليه الممثل؟ وإذا كان الأمر كذلك فلم لم تصدر لى الأوامر قبل التمثيل حتى كنت ألجأ للسقوط التام والفشل الزؤام؟ نهايته أخدتها من قصيرها وعدت للقاهرة ففى قهوة الفن متسع للجميع ومن فات قديمه تاه)

في حديثه عن الفقر
(أنا مدين بمكانتى وشهرتى ونجاحى لأستاذ عظيم.. هو الفقر) عبارة رددها نجيب الريحانى، ولكن فقر الريحانى لم يكن بالأمر السهل، حتى وصل به الأمر أن يمكث بلا طعام لمدة يومين متتاليين خاصة أن والدته أوصدت بابها دونه بعد فصله من شركة السكر، ولكنه كان عزيز النفس، رفض أن يذل نفسه لأحد حتى والدته، فكان يمكث فى قهوة الفن حتى موعد انتهاء العمل بها فى الثانية بعد منتصف الليل، ثم يغادرها إلى كوبرى قصر النيل متجهاً للجزيرة حتى إذا أعياه التعب، استلقى على الإفريز وتوسد حجرا من أحجار الطريق حتى الصباح. يحكى عن تلك الأيام فيقول (وإن نسيت فلن أنسى يوماً قمت فيه من النوم وتلفت فإذا تحت وسادتى كنز، كنز ثمين لا يعرف قيمته إلا المفلسون، أتعرفون ما هو، قرش تعريفه، وا فرحتاه خمسة مليمات حته واحدة ما هذا الفتوح، وعندها وسعت على نفسى فى الإفطار، وإن شا الله ما حد حوش، فقد أكلت طعاماً دسماً عماده الفول المدمس والسلطة والطعمية والعيش، كمان كانت الدنيا مبحبحة والقرش تعريفة ثروة).

لقائه مع محمود صادق سيف
الذي بعثه الفقر ليكونوا أصدقاء، ويحكي الريحانى
نجيب: ما الذى جاء بك هنا يا محمود؟
محمود: هو الذى جاء بك أنت يا نجيب.
نجيب: إذاً كلانا يسكن فندقاً واحداً!
ولكن هذا اللقاء قد أثمر بالنفع والصالح لنجيب، والحكاية كما يرويها تقول: (جاءنى محمود سيف ذات يوم مبتهجاً وقال اسمع يا نجيب صاحب مكتبة المعارف كلفنى بتعريب أجزاء فرنسية من رواية اسمها "نقولا كارتر" واتفق معى على أن أتناول مقابل ذلك ١٢٠ قرشاً عن كل جزء وستصدر أسبوعيا، وأنت تجيد الفرنسية كما أجيد أنا العربية فهيا نتشارك فى العمل ونقتسم الثمن مناصفة).
وفى الحال نفذنا الفكرة وظللنا نتقاضى الأجر فرحين وكان صاحب دار المعارف يدير فندقا فى أعلى المكتبة فاتفق معنا على استئجار غرفة نظير خمسة قروش فى الليلة وكان يخصمها من الأجر الذى نتقاضاه منه، كانت الغرفة تحتوى على سرير واحد وكنبة مفروشة، وكان السرير موضع نزاع دائم بينى وبين محمود صادق.

توالت الخيرات حيث كانت فرقة الشيخ أحمد الشامى تقدم المسرحيات المترجمة عن الفرنسية، وكانت تبحث عن معرب وممثل، وكانت الوظيفة من نصيب الريحانى مقابل ٤ جنيهات فى الشهر، وكانت الفرقة تجول كل مدن وقرى مصر، من نقطة إلى أخرى تنطلق، وكانوا يستأجرون بيتاً يسع الفرقة كلها إذا ما حلوا بقرية أو مدينة توفيرا للتكاليف، فكان أعضاء الفرقة يصحبون فى ترحلهم مراتب ومخدات وألحفة، وفى ذات يوم كانت الفرقة فى طنطا وفجأة طرق باب البيت الذى ينزلون فيه، وعندما تم فتحه وجد والدته أمامه، يقول الريحانى: (وا كسوفاه كنت أتمنى أن تشق الأرض وتبتلعنى حتى لا ترانى أمى على الحال التى كنت بها، خصوصاً أننى كنت عامل أبو على وطالع فيها ومتظاهر أننى فى غير حاجة لأهلى ما داموا ينكروننى، إلا أن سبب مجىء والدتى هو أنه وصلنى خطاب على عنوانى بالقاهرة من مصنع السكر فى نجع حمادى يدعوننى فيه للعودة للعمل، كان طلب الشركة عودتى لها سبب دهشة كبيرة لى إلا أنه إذا عرف السبب بطل العجب، فقد حدث بين بعض موظفى الشركة خلافات مع عم ت استحكمت حلقاته، ولكنهم لم يتمكنوا منه، ولم يجدوا سببا لفصله من عمله، فهداهم تفكيرهم إلى استعمال الحيلة بأن يعيدونى لعملى بالشركة، فلا يجد غريمى العم ت بداً من هجر الشركة والبلد بمن فيه).

(بالطبع لم أتوان عن قبول الوظيفة وجمعت عزالى وهو عبارة عن مخدة ولحاف ومرتبة وكام هدمة، وعدت سريعا للقاهرة ومنها إلى نجع حمادى، حيث استلمت عملى وأنا أقسم جهد أيمانى أننى لن أعود للتمثيل مهما حدث، ومهما كانت الأسباب، فهل بررت بقسمى؟)
ولكن نجيب الريحانى الذى حاول التمسك بقسمه على مدى عامين من ١٩١٠-١٩١٢ ادخر فيها ٢٠٠ جنيه ذهبية، وكان هادئا مستريح البال، حتى تلقى خطاباً من عزيز عيد يخبره فيه بأن جورج أبيض عاد من أوروبا وأنشأ فرقة مسرحية، وأن الصحافة بدأت فى الاهتمام بالمسرح، فقرر النزول للقاهرة فى إجازة شهرين ليشاهد تمثيل جورج أبيض، وتوسع فى الإنفاق هنا وهناك، حتى نفد ماله، واقترض ثمن تذكرة القطار لنجع حمادى فى طريق عودته لعمله.

 يقول الريحانى: (بعد عودتى ساءت أحوالى وعادت غية التمثيل تراودنى فى الغدو والرواح، وكان لى صديق اسمه دكتور جودة كان صديقا لى فى نجع حمادى كنت أجبره على الإنصات لى تارة أقلد جورج أبيض وتارة عزيز عيد، وكم ضاق بى جودة ذرعاً وتهرب منى حين كنت أجبره على السهر معى، حتى شاء الله بعد فترة أن يجد الدكتور جودة من يحمل العبء عنه إذ وفد على نجع حمادى المهندس الظريف الأستاذ محمد عبدالقدوس منقولا إلى مدرسة الصنايع هناك، فائتلفنا ائتلافا تاما وتسلينا بكل ما تعنيه الكلمة، وتباحثنا فى فنون الدردحة، ولا أعرف أكنت أتلقى هذه الفنون على يد "كندس" أم كنت ألقنه إياها؟

كان يلقى على "مونولوج"، وأنا أجلس منه فى مقاعد الشعب من الممثل، ثم يأتى دورى فألقى بقطعة تمثيلية يحتل هو أثناء إلقائى لها مكانى بصفته متفرجاً، وهكذا إلى أن يأذن الليل بالرحيل. 
لم يطل بقاء "كندس" فى نجع حمادى بل غادرها منقولا أو مرفوتا لست أدرى، الذى أدريه أنه ترك وحشة وفراغاً لم أكن أتوقعهما).
وبهذا عاد نجيب الريحاني حتي يتسلق مشواره الفني العظيم الذي أتحفنا به علي مر أجيال عديدة.