تفسير الشعراوي للآية 76 من سورة النساء

إسلاميات

الشيخ محمد متولي
الشيخ محمد متولي الشعراوي


{الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)}.

وعرفنا أن الطاغوت هو: المبالغ والمسرف في الطغيان، ويطلق على المفرد وعلى المثنى، وعلى الجمع: فتقول: رجل طاغوت، رجلان طاغوت، رجال طاغوت، والحق يقول: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت} [البقرة: 257].

إذن فالطاغوت يطلق على المفرد وعلى المثنى وعلى الجمع، وهل الطاغوت هو الشيطان؟. يصح. أهو الظالم الجبار الذي يطغيه التسليم له بالظلم؟ يصحّ، أهو الذي يفرض الشرّ على الناس فيتقوا شرّه؟ يصحّ، وكل تلك الألوان اسمها (الطاغوت).

والأسلوب القرآني يتنوع فيأتي مرة ليقول: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ} [آل عمران: 13].

وانظر للمقابلة هنا: {الذين آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والذين كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطاغوت}، هنا {آمَنُواْ} و{كَفَرُواْ} وهنا أيضا في {سَبِيلِ الله} و{فِي سَبِيلِ الطاغوت} هذه مقابل تلك. لكي نعرف العبارات التي ينثرها ربنا سبحانه وتعالى علينا أن ندرك فيها الخطفة الإعجازية، قال في هذه الآية: {الذين آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والذين كَفَرُواْ} مقابلات؛ لأن الكافر مفهوم أنه طاغوت، ولكن: إذا ذكرت في الثانية مقابلا لمحذوف من الأولى، أو حذفت من الأولى مقابلاً من الثانية، هذا يسمونه في الأسلوب البياني احتباكا كيف؟

ها هوذا قوله سبحانه وتعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ} أي تقاتل في سبيل الطاغوت، ويقابلها الفئة التي تقاتل في سبيل الله ولابد أن تكون مؤمنة.

إذن فالكلام كله منسجم، فقال: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ} وترك صفتها كمؤمنة وقال: {تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله} وسنعرف على الفور أنها مؤمنة، وربنا يحرك عقولنا كي لا يعطينا المسائل بوضوح مطلق بل لنعمل فكرنا، كي لا يكون هناك تكرار، ولكي تعرف أنه إذا قال: {فِي سَبِيلِ الله} يعني مؤمناً، وإذا قال: {فِي سَبِيلِ الطاغوت} يكون كافرًا.

ويتابع الحق: {فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان}. أي نصراء الشيطان الذين ينفخون في مبادئه، والذين ينصرون وسوسته في نفوسهم ليوزعوها على الناس، هؤلاء هم أولياء الشيطان؛ لأن الشيطان- كما نعرف- حينما حدث الحوار بينه وبين خالقه.

قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82].

لكنه عرف حدوده ولزمها فقال: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 83].

أي أن من تريده أنت يا رب لا أقدر أنا عليه. وهذه تدلنا على أن المعركة ليست بين إبليس وبين الله، فتعالى الله أن يدخل معه أحد في معركة، بل المعركة بين إبليس وبين الخائبين من الخلق، فعندما قال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} دلّ على أنه عرف كيف يُقْسِم ويحلف؛ لأن ربنا لو أراد الناس كلهم مؤمنين لما قدر الشيطان أن يقرب من أحد، لكن ربنا عزيز عن خلقه، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.

ومن هنا دخل الشيطان، فالشيطان قد دخل من عزّتك على خلقك سبحانك لأنك لو كنت تريدهم كلهم مؤمنين لما استطاع الشيطان شيئاً، بدليل قوله: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} أي أنا لا أقدر عليهم. ودلّ قَسَم الشيطان أنه دارس ومنتبه لمسألة دخوله على العباد فقال: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16].

إذن فالشيطان لن يأتي على الصراط المعوجّ؛ لأن الذي يسير على الصراط المعوج والطريق الخطأ لا يريد شيطاناً؛ فهو مريح للشيطان، ويعينه على مهمته، فيكون وليّه. فأولياء الشيطان هم كل المخالفين للمنهج، وهم نصراء الشيطان.

والحق يأمرنا: {فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان}. هؤلاء الذين بينهم وبين الشيطان ولاء، هذا ينصر ذاك، وذاك ينصر هذا، ويطمئننا الحق على ذلك فيقول: {إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفا}؛ لأن الشيطان عندما يكيد سيكون كيده في مقابل كيد ربه، فلابد أن يكون كيده ضعيفاً جداً بالقياس لكيد الله، وليس للشيطان سلطان يقهر قالب الإنسان على فعل، ولا يستطيع أن يرغمك على أن تفعل، وليس له حجة يقنعك بها.

والفرق بين من يكره القالب- قالبك-: أنك تفعل الفعل وأنت كاره، كأن يهددك ويتوعدك إنسان ويمسك لك مسدساً ويقول لك: اسجد لي- مثلاً- إذن فقد قهر قالبك. لكن هل يقدر أن يقهر قلبك ليقول: (أحبني)؟. لا يمكن. إذن فالمتجبر يستطيع أن يكره القالب لكنه لا يقدر أن يقهر القلب، فالذي يقهر القلب هو الحجة والبرهان، بذلك يقتنع أن يفعل الفعل وليس مرغماً عليه. إذن فالأول يكون قوة، والثاني يكون حجة.

والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: اعرفوا أن هذا الشيطان ضعيف جداً، فهو لا يملك قوة أن يرغمك فإذا أغواك تستطيع أن تقول له: لن أفعل.. ولا يستطيع أن يأتي لقلبك ويقول لك: لابد أن تفعل ويحملك على الفعل قهرا عنك. فليس عنده حجة يقنعك بها لتفعل، فهو ضعيف، فلماذا تطيعونه إذن؟. إنكم تطيعونه من غفلتكم وحبكم للشهوة، والشيطان لا يقهر قلبكم، ولا يقهر قالبكم. بل يكتفي أن يشير لكم!!، ولذلك سيقول الشيطان في حجته يوم القيامة على الخلق: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} [إبراهيم: 22].

أي لم يكن لي عليكم سلطان: لا سلطان قدرة أرغمكم على فعلكم بالقالب، ولا سلطان حجة أرغمكم على أن تفعلوا بالقلب، أي أنتم المخطئون وليس لي شأن، إذن فكيد الشيطان ضعيف. و(الكيد)- كما نعرف- هو: محاولة إفساد الحال بالاحتيال، فهناك من يفسد الحال لكن ليس بحيلة، وهناك من يريد أن يفسدها بحيث إذا أمسكت به يقول لك: لم أفعل شيئاً؛ لأنه يفعل الخطأ في الخفاء.

ويفسد الحال بالاحتيال. والكيد لا يقبل عليه إلا الضعيف.

إن القوي هو من يواجه من يكيد له، فالذي يدسّ السّم لإنسان آخر في القهوة- مثلاً- هو من يرتكب عملاً لإفساد الحال باحتيال؛ لأنه لا يقدر أن يواجه، أما القوى فهو يتأبى على فعل ذلك، وحتى الذي يقتل واحداً ولو مواجهة نقول له: أنت خائف، أنت أثبت بجرأتك على قتله أنك لا تطيق حياته، لكن الرجولة والشجاعة تقتضي أن تقول: أبقيه وأنا أمامه لأرى ماذا يقدر أن يفعل.

إذن فكيد الشيطان جاء ضعيفاً لأنه لا يملك قوة يقهر بها قالباً، ولا يملك حجة يقهر بها قلباً ليقنعك، فهو يشير لك باحتيال وأنت تأتيه: ولا يحتال إلا الضعيف. وكلما كان ضعيفاً كان كيده أكثر، ولذلك كانوا يقولون مثلاً: المرأى أقوى من الرجل لأن ربنا يقول: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28].

ونقول لهم: ما دام كيدهن عظيما؛ إذن فضعفهن أعظم، وإلا فلماذا تكيد؟. ولذلك يبرز الشاعر العربي هذا المعنى فيقول:
وضعيفة فإذا أصابت فرصة *** قتلت كذلك قدرة الضعفاء

لأن الضعيف ساعة يمسك خصمة مرة. وتمكنه الظروف منه؛ يقول: لن أتركه لأنني لو تركته فسيفعل بي كذا وكذا. لكن القوى حينما يمسك بخصمه، يقول: اتركه وإن فعل شيئاً آخر أمسكه وأضربه على رأسه، إذن فإن كان الكيد عظيماً يكون الضعف أعظم.

ويقول الحق بعد ذلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ...}.