رحمة رسول الله بالأسرى

إسلاميات

رحمة الرسول بالأسرى
رحمة الرسول بالأسرى


الإسلام دين واقعي يتعامل مع الأحداث ومع الواقع، ولا يذهب في تشريعاته مع الخيال أو المثالية غير القابلة للتحقيق، ومن ثَمَّ كان من الطبيعي أن يتعامل مع قضية الأسرى كواقع يفرض نفسه على الحياة، لا أن يتجاهله، أو يفرض لها حلاًّ عاطفيًّا غيرَ واقعيٍّ، لذلك فإنه يتعيّن على المسلمين في بعض الظروف أن يحتفظوا بالأسرى، وأقرب الظروف إلى الذهن أن يكون العدو قد أسر من المسلمين رجالاً يلزم أن نُبادلهم بأمثالهم.

رسول الله والأسرى
كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعامل الأسرى في حال الاحتفاظ بهم؟

لقد كانت القاعدة العامة التي حَثَّ عليها الرسول صلى الله عليه وسلم في أوّل غزوة غنم فيها المسلمون أسرى هي: "استوصُوا بهم –أي بالأسرى- خيرًا".

لكن المهم في الأمر أن هذه المعاملة الحسنة التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للأسرى لم تكن مجرّد قوانين نظرية ليس لها تطبيق في واقع الحياة، ولكنَّها تمثّلت في مجموعة من المظاهر التي تُنبئ عن قلوب ملأتها الرحمة، وعن مشاعر فاضت بالعطف والحنان، وسوف نتناول –إن شاء الله- هذه المظاهر من خلال النقاط الآتية:

إطعام الأسرى
قال الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]. في هذه الآية الكريمة من الدستور الإسلامي -القرآن الكريم- يحثُّ الله تعالى عباده المؤمنين على الإحسان إلى أسراهم وإطعامهم، ويعِدُهم بذلك النعيمَ في الآخرة.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم غزوة بدر أن يُكرموا الأُسَارى، فكانوا يُقَدِّمُونهم على أنفسهم عند الغداء، وهكذا قالسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وقتادة.

ويعلق ابن جريج على نفس الآية فيقول: لم يكن الأسير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من المشركين، قال أبو عبيد: فأرى أن الله تعالى قد أثنى على من أحسن إلى أسير المشركين.

أبو عزيز بن عمير
ولم يكن الصحابة رضوان الله عليهم يقدمون للأسرى ما بقي من طعامهم بل كانوا ينتقون لهم أجود ما لديهم من طعام، ويجعلونهم يأكلونه عملاً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، وها هو أبو عزيز-شقيق مصعب بن عمير رضي الله عنه- يحكي ما حدث يقول: "كنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا  قدموا غداءهم وعشاءهم خَصَّوْني بالخبز، وأكلوا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بن، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها؛ فأستحي فأردّها فيردّها عَلَيَّ ما يمسّها!

قال ابن هشام: وكان أبو عزيز هذا صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث، أي أنّه لم يكن شخصية عادية، بل كان من أشدّ المشركين على المسلمين، فلا يحمل اللواء إلا شجعان القوم وسادتهم! ولكن هذا لم يغير من الأمر شيئً، لأن الرحمة بالأسير أصل من أصول التعامل لا يجوز التخلي عنه تحت أي ظرف.

كسوة الأسرى
لم يقتصر المسلمون على إطعام أسراهم من المشركين؛ بل إنهم كانوا يُقدّمون لهم الملابس أيضً، وهذا ثابت في الصحيح، فقد جعل البخاري –رحمه الله– بابًا في الصحيح سمّاه: باب الكسوة للأُسارى، وذكر فيه أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "‏لَمَّا كَانَ يَوْمَ ‏بَدْرٍ ‏أُتِيَ بِأُسَارَى وَأُتِيَ‏ ‏بِالْعَبَّاسِ ‏وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ فَنَظَرَ النَّبِيُّ ‏‏ صلى الله عليه وسلم ‏لَهُ قَمِيصًا فَوَجَدُوا قَمِيصَ ‏عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ‏‏يَقْدُرُ عَلَيْهِ فَكَسَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ‏إِيَّاهُ".

وورد أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر لأسرى هوازن بالكساء فقد أمر رجلاً أن يَقْدُمَ مكة فيشتري للسبي –الأسرى- ثياب المُعَقَّد، فلا يخرج الحرُّ منهم إلا كاسيًا.

توفير المأوى والمسكن للأسرى
حتى يتمّ النظر في شأن الأسرى كان المسلمون يجعلونهم في أحد مكانين إما المسجد وهو أشرف مكان عند المسلمين، وإما بيوت الصحابة رضي الله عنهم.

وكان المستهدف من إبقاء الأسرى في المسجد أن يَرَوْا أخلاق المسلمين وعبادتهم لعلهم يتأثّرون به، فيدخل الإيمان في قلوبهم، وقد حدث هذا بالفعل مع بعضهم كالصحابي ثمامة بن أثال رضي الله عنه.

وأما إبقاء الأسرى في منازل الصحابة رضي الله عنهم فكان هذا إكرامًا كبيرًا من المسلمين لهؤلاء الأسرى؛ فعن الحسن البصري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُؤتَى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول: "أَحْسِنْ إليه"، فيكون عنده اليومين والثلاثة، فَيُؤْثِرُهُ على نفسه.

عدم التعرّض للأسرى بالأذى
الفطرة السليمة تأبى التعذيب للنفوس البشريّة، بل إنها لا ترضى بتعذيب الحيوان أو الطير، وقد ربَّى الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام رضي الله عنهم على الرحمة، فقد روى جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "‏مَنْ لا يَرْحَمْ النَّاسَ لا يَرْحَمْهُ اللَّهُ ".

فكان الصحابة رضوان الله عليهم نماذج عملية في الرحمة ببني البشر جميعًا مسلمين وغير مسلمين، وقد أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب غلامي قريش في أحداث بدر فقال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَ، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَ، صَدَقَا وَاللهِ إِنَّهُمَا لِقُرَيْش"، مع أن هذين الغلامين اللذين ضُرِبَا من الجيش المعادي –جيش المشركين– ويمدَّان الجيش بالماء.

بل إن شريعة الإسلام تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث تمنع تعذيب الأسير للإدلاء بمعلومات عن العدو، وقد قيل للإمام مالك: أَيُعذَّبُ الأسيرُ إن رُجِيَ أن يدلّ على عورة العدو؟ قال: "ما سمعت بذلك".

الرفق بالأسرى واللين معهم
من أخلاق الإسلام أيضًا في التعامل مع الأسرى الرفقُ ولين الجانب، حتى يشعروا بالأمن والطمأنينة، وقد كان من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه كان يردُّ على استفسارات الأسرى، ولا يسأم أو يَمَلُّ من أسئلتهم، مما يُوحِي بسعة صدره، وعمق رحمة النبي صلى الله عليه وسلم التي شملت البشر جميعًا..

ففي صحيح مسلم بسنده عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: "كَانَتْ ‏ثَقِيفُ ‏‏حُلَفَاءَ ‏لِبَنِي عُقَيْلٍ ‏فَأَسَرَتْ ‏‏ثَقِيف ‏رَجُلَيْنِ مِنْ ‏‏أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ‏ صلى الله عليه وسلم ‏وَأَسَرَ ‏أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏رَجُلاً مِنْ ‏بَنِي عُقَيْلٍ وَأَصَابُوا مَعَهُ‏ ‏الْعَضْبَاءَ ‏فَأَتَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏وَهُوَ فِي الْوَثَاقِ قَالَ: يَا ‏مُحَمَّدُ، ‏فَأَتَاهُ فَقَالَ: ‏"مَا شَأْنُكَ؟"

فَقَالَ: بِمَ أَخَذْتَنِي وَبِمَ أَخَذْتَ ‏سَابِقَةَ ‏الْحَاجِّ؟ فَقَالَ: "إِعْظَامًا لِذَلِكَ أَخَذْتُكَ ‏بِجَرِيرَةِ ‏حُلَفَائِكَ‏ ‏ثَقِيفَ". ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ فَنَادَاهُ فَقَالَ: يَا ‏مُحَمَّدُ، ‏يَا ‏مُحَمَّدُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ صلى الله عليه وسلم ‏رَحِيمًا رَقِيقًا فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: "مَا شَأْنُكَ؟" قَالَ: إِنِّي مُسْلِمٌ.

قَالَ: "لَوْ قُلْتَهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلاحِ" ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَادَاهُ فَقَالَ: يَا‏ ‏مُحَمَّدُ،‏ ‏يَا ‏مُحَمَّدُ، ‏فَأَتَاهُ فَقَالَ: "مَا شَأْنُكَ؟" قَالَ: إِنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي وَظَمْآنُ فَأَسْقِنِي، قَالَ: "هَذِهِ حَاجَتُكَ".

فهذا التردد على الرجل كلما نادى عليه صلى الله عليه وسلم -وهو القائد الأول للدولة الإسلامية- ومناداته باسمه صلى الله عليه وسلم مجرّدًا يدلّ على مدى الرحمة والإنسانية التي يحملها الرسول صلى الله عليه وسلم في قلبه لكل البشر.

وأعطى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأبي الهيثم بن التيّهان أسيرً، وأمره بالإحسان إليه، فأخذه أبو الهيثم إلى منزله، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني بك خيرً، فأنت حُرٌّ لوجه الله، ورُويَ أنه قال له: "أنت حُرٌّ لوجه الله، ولك سهم من مالي".

احترام مشاعر الأسرى الإنسانية
إن الإسلام يرفع من قيمة البشر، ويحترم المشاعر الإنسانية احترامًا كبيرً، سواء مع المسلمين أو مع غيرهم، وقد وجدنا تطبيقات عمليّة كثيرة لهذا الأمر في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويظهر هذا الأمر بوضوح في أوقات الشدائد وبعد الحروب خاصّة، فنجد النبي صلى الله عليه وسلم يوجِّه أصحابه الكرام توجيهات إنسانية راقية في شأن التعامل مع الأسرى من النساء والأطفال؛ فينهى عن التفريق بين الأم وطفلها؛ فعَنْ أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

ولعلّ القصّة التالية تكون خاتمة جميلة لهذا المقال، حيث تظهر فيها رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم في أبهى صوره، فقد أتى أبو أسيد الأنصاري رضي الله عنه بسبي من البحرين فَصُفُّو، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إليهم؛ فإذا امرأة تبكي؛ فقال: "ما يُبْكِيكَ؟" فقالت: بِيعَ ابني في بني عبس؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي أسيد: "لَتَرْكَبَنَّ فَلَتَجِيئَنَّ به"، فركب أبو أسيد فجاء به!

لقد رَقَّ قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة الأسيرة فأرسل أحد جنوده إلى بلد بعيد ليأتي لها بابنه، حتى يهدأ باله، وتجفّ دموعها!

ولعلّ السؤال الأبرز الذي يخطر على بالنا الآن: هل هناك قائد عسكريٌّ في العالم ينتصر في معركة فيشغل نفسه وجنوده لإسعاد امرأة أسيرة بسيطة لا يعرفها أحد؟!!

إن الإجابة التي يعرفها الجميع هي أن ذلك أبدًا لا يكون!!

إلا أن يكون هذا القائد هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم!! وصدق الله عز وجل إذ يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].