نادية صالح تكتب: عبيد المذاهب

مقالات الرأي



«عبيد المذاهب» كان هذا عنوان أحد المقالات التى كتبها الفيلسوف المصرى العربى الكبير د. زكى نجيب محمود وضمنها كتابه الشهير «مجتمع جديد أو الكارثة» ولأهمية هذه المقالة أعيد بعض سطوره على حضراتكم لتعم الاستفادة منها فما أحوجنا إلى مغزاها فى هذه المرحلة التى نمر بها، بل ويمر بها العالم كله..، تقول بعض سطور مقالة الراحل الكبير د. زكى نجيب محمود:

«علمتنى خبرة السنين بين ما علمتنى أن من أخطر مزالق الفكر أن أقيد نفسى فى حدود إطار مذهبي، تقييداً يجعلنى أرجع فى كل أمورى إلى مبادئ مذهب معين، فما وجدته متفقاً مع تلك المبادئ فعلته، وما لم يتفق معها رفضته، وذلك لأن الخبرة علمتنى أن تيار الحياة أغزر جداً من أن يلم به مذهب واحد محدد بعدد قليل من المبادئ والقواعد، ولذلك كان من التطور الطبيعى فى حياتى الفكرية -دون أن أتعمد شيئاً عن تخطيط وتدبير- أن أجدنى قد اتخذت لنفسى من اتجاهات الفلسفة المعاصرة اتجاهاً هو فى حقيقته «منهج» للتفكير، لا «مذهب» يورط نفسه فى مضمون فكرى بذاته، فكنت كمن وضع فى يده ميزاناً يزن به ما يشاء دون أن يملأ يده بمادة معينة لابد أن تكون هى وحدها موضع الوزن والتقدير.

وحين وجدت الإمام الغزالى فى نهاية كتابه «ميزان العمل» يجيب سائلاً جاء يسأله عن ضرورة أن يكون للإنسان مذهب يتبعه، فأخذ الإمام يحذره أقوى ما يكون التحذير من أن يجعل من نفسه تابعاً لأحد فيما ذهب إليه: «ولو ذكر ذاكر مذهبه فما منفعتك منه؟ هكذا قال له، ثم استطرد ليقول: إن كل مذهب له ما يخالفه فى مذهب آخر وليس فى أى منهما معجزة تجعله أرجح من منافسه، فتجنب الالتفات إلى المذاهب واطلب الحق بطريق النظر وجعلت منطقى دائما هو المشكلة التى أمامى وكيف أحلها، وإذا سألت كيف يجىء الحل؟ فلست أدري، لأن فى طبيعة كل مشكلة ما قد يوحى بطريقة حلها، وبعد ذلك يأتى المذهب الذى ربما يفكر فيه أحدهم ليضع نظرية أو مذهباً من واقع ما قام به فعلاً وبذلك تكون الأسبقية للمشكلات الفعلية وحلولها على تكوين المذاهب النظرية، بحيث تأتى هذه «المذاهب» وكأنها بمثابة التنظير الذى يلخص الأساليب المختلفة التى لجأ إليها الناس فعلا لا التى «يجب» أن يلجأوا إليها فى حل مشكلاتهم.

وهذا -فى رأيي» كان المصدر الحقيقى الذى أشتق منه فلاسفة النظريات السياسية فلسفاتهم فى هذا المجال بدءاً من أفلاطون وأرسطو وانتهاء بماركس ومروراً فى الطريق بالفارابي وروسو وهيجل فلم يكن هؤلاء الفلاسفة يسكنون بروج من عاج أو من حجر كما يظن البعض، ولكن هم ينظرون - بتشديد الظاء- وما حولهم من حياة واقعية. فهى إذن مذاهب بنيت من تربة الأرض ولم تهبط من السماء وكلما تغيرت هذه التربة «استتبع ذلك تغير فى وجهة النظر».

والأمر مقلق وهام جداً وتأمل عميق لمقال د. زكى نجيب محمود: أليست هذه العبادة للمذاهب مدخلاً للتطرف فى التفكير، ألم يكن هذا الفيلسوف سابقاً لعصره وعصرنا وما جرى ويجرى حتى الآن.. فلنتأمل جيداً ولندرس بعيون الأسياد لا بعيون العبيد كل ما نقرأ أو نسمع حتى لا نقع فريسة للتطرف وتكون العاقبة الوخيمة، والله المستعان.