كسرنّ التقاليد بالعمل.. كيف تغلبنّ سيدات النوبة على عادتهنّ من أجل الأبناء؟ (قصة مصورة)
مع رفع آذان الظهر، ارتدت زينب "الجرجار" النوبي، أتمت زينتها، في انتظار صديقاتها اللاتي يخرجن معًا يوميًا في نفس الميعاد، يبيعن منتجات نوبية، متجهين صوب الممر الضيق الذي يتميز بالعديد من المنازل ذات الطراز النوبي القديم، بغرب سهيل بمدينة أسوان- ليتخذن منها مقرًا لمشروعهن الصغير-، يحاولن مساعدة أزواجهن دون أن يكسرن التقاليد التي لا يسمح لهن بالخروج عليها "حافظنا على العادات والتقاليد المقدسة بصناعتنا التراثية".
إطلالة المرأة التي شارفت على منتصف الأربعينات، بالزي النوبي، نشرت البهجة داخل السوق، وجذب العديد من السائحين لمنتجاتها "كتير من السياح طلبوا مني الجرجار.. علشان كده بقيت حريصة على رسمه على مجسمات العرايس"، التي تساند في مصاريف الأسرة ودعم أبناءها يدًا بيد مع زوجها، في ظل الظروف الاقتصادية الحالية "يد واحدة متسقفش"، تقولها زينب التي لم تنل حظًا من التعليم، وهي تحاول عرض بعض الميداليات الخشبية والأعقاد الملونة التي تحملها على يديها أكثر من سبع ساعات يوميًا "كان لازم اشتغل ففكرت أنا وسلفتي وجيراني إللي حالهم شكلي إننا نشتري بعض الخامات والأدوات البسيطة ونحاول نعمل منتجات خاصة بنا من البيوت ونخرج قدام بيوت الجزيرة ونبيعها للسياح.. ونساعد رجالتنا وكمان نكون قدام عنيهم في جزيرتنا".
على بعد خطوات، ترسم صديقاتها اللاتي يجلسن بجانب الحوانيت والبيوت الأثرية بالجزيرة- التي تعد نموذج واقعي للسياحة البيئية وتقع في الضفة الغربية للنيل إلى الشمال من خزان أسوان-، يروجن لمنتجاتهن، لوحة زيتية من ألوان مجسمات العرائيس، اللائي حرصن أن تتخذ الطابع النوبي فلون الخشب بلون البشرة السمراء "كان لازم لنجاح مشروعنا أن نتميز بشىء مختلف بدلاً من العرايس المرسومة زي الأجانب.. واللي طبعا مش هتلفت أنظار السياح"، تقولها أم محمود، التي اتجهت للعمل فور وفاة زوجها لتعول أسرتها، متخذه من مشروع زوجها الفكرة التي شاركن فيها جيرانها "زوجي كان رافض فكرة الشغل لأن مفيش عندنا هنا حد بيشتغل في العيلة أو في القرية عامة.. لكن لما تعب فضلت أقوله قالي لما أموت ابقي اشتغلي بس من الدار.. وبعد موته فكرت في كلمته وحافظت على العهد.. وبدأت اشتغل من الساعة 9 بالليل أخد المجسمات من زينب بعد نحتها والونها وأرسم عليها لحد ما يغلبني النوم".
"نواية تسند الزير"، بهذه العبارة عبرت، صفية عن طبيعة ظروف حياتها الصعبة، ومساعدتها لزوجها 13 عامًا، لاسيما وأنها حرصت على تعليم أبنائها الأربعة "بنتي الكبيرة في كلية تجارة والتانية في ثانوية عامة وواحدة في ابتدائي أما ابني الوحيد في إعدادي". عاودت المرأة الخمسينية نشاطًا قديمًا كانت تمارسه قبل الزواج من المنزل، فكانت تجدل مع والدتها خيوط الصوف وتقوم بصناعة الأعقاد الملونة، لمساندة والدها، ومع الظروف المعيشية حاليًا عادت مرة أخرى لمهنتها، ولكن "الظروف اختلفت زمان كانت الخامات سعرها بسيط دلوقتي غليت وصعب نشتري غير كميات محدودة". بطبيعة الحال في غرب سهيل التي تجوب في أزقتها الكثير من السياح تعلمت بعض الكلمات الإنجليزية التي ساعدتها على بيع بضاعتها- التي تستغرق كثير من الوقت لصناعتها- وعرضها على السياح.
غروب الشمس بالنسبة لهؤلاء النسوة، هو إشارة لانتهاء يومهن "عاداتنا إننا كلنا لازم نكون في بيوتنا قبل ما الشمس تغرب.. حتى لو ما استرزقنا"، تقولها أم محمود، التي قاسمها البؤس والفقر، واضطر زوجها لسفر إلى قاهرة المعز والعمل بها لعدة سنوات "مكنش في حل تاني غير أن أساعده"، تصمت لبرهة، وتتذكر قلق زوجها عليها حين عرضت عليه فكرة عملها بعد أشهر من سافره "اطمن لما قولتله أن هشتغل من الدار.. وهطلع على أول الطريق بس"، يسابق كلامها طيفه، مرددة بعض الكلمات النوبية غير المفهومة، لتلتقط منها صفية أطراف الحديث "سنين مفارقنيش ولازم اتحمل واعينه على تربية الـ5 بنات". تكثف السيدات عملهن في هذه الآونة لأنه يعد موسم للرزق لهن "من بداية أكتوبر واحنا بنشتغل أكتر لأن ده أكبر موسم علشان فصل الشتاء وكمان إجازة المدارس".