"ثورة 23 يوليو" .. الثورة الأم فى تاريخ النضال الوطنى

ركن القراء



رغم مرور 59 عاما على ثورة 23 يوليو 1952 بقيادة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، فمازالت هى الثورة الأم ورمزا لكفاح الشعب المصرى وطريقا للتنمية الاجتماعية والاقتصادية فى البلاد، وستبقى ثورة يوليو حية ونابضة فى وجدان شعب مصر فهى ثورة رائدة فى التاريخ المعاصر وحدثا مهما فى تاريخ مصر غير وجه الحياة فيها.

ويأتى الاحتفال بثورة يوليو هذا العام فى ظل ثورة المصريين التى قامت فى الخامس والعشرين من يناير التى استعادت الكرامة للشعب المصرى وعبرت به من اليأس والإحباط والفساد إلى آفاق من الأمال والأحلام العظيمة لتحقيق أهدافها .. وإذا كانت الثورة تواجه الآن بعد عدة أشهر من عمرها تحديات الهدف منها إفشالها، فإن العمل على دعم الثقة المتبادلة بين قوى الثورة هو الطريق الصحيح لاجتياز هذا الاختبار الصعب الذى تخوضه قوى الثورة.

ويرى المحللون السياسيون أن هناك علاقة وطيدة تربط بين ثورتى 23 يوليو 1952، وثورة 25 يناير 2011 وتصلهما بثورة 9 مارس 1919، وكلها حلقات متصلة فى ثورة المصريين الوطنية وليست منفصلة حيث تعتبر ثورة 25 يناير هى محصلة ثورتى 23 يوليو و9 مارس، فالثورات الثلاث معالم رئيسية فى تاريخ النضال الوطنى بالرغم من اختلاف أهداف كل منها، فالقضية الوطنية كانت الهدف الأول لثورة 1919، والعدالة الاجتماعية فى ثورة 52، والحرية والديمقراطية فى ثورة 2011.

وهناك خط مشترك يجمع بين الثورات الثلاث هو الدرجة العالية فى الإيمان بالله، فثورة 9 مارس 1919 هى الثورة التى رفعت الهلال مع الصليب دليلا على وحدة نسيج الشعب، وثورة 23 يوليو 52 هى الثورة التى اعتلى قائدها جمال عبد الناصر منبر الجامع الأزهر ليعلن صمود شعبه وجيشه فى مواجهة العدوان الثلاثى الذى قامت به بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ضد مصر عام 1956 وأعلن من فوق منبر الأزهر سنحارب ولن نستسلم أبدا ، أما ثورة 25 يناير 2011 هى الثورة التى أدى فيها الثوار من المسلمين صلاة الفروض وصلاة الجمعة فى ميدان التحرير وحولهم إخوانهم من ثوار أقباط مصر، وأيضا أدى ثوار مصر الأقباط صلاتهم وقداسهم فى ميدان التحرير فى حماية إخوانهم من الثوار المسلمين.وفى نفس الوقت، هناك تشابه أيضا بين ثورة 23 يوليو 52، و25 يناير 2011 وذلك

فى العلاقة بين الشعب والجيش، فثورة 23 يوليو ثورة جيش سانده وأيده الشعب، وثورة 25 يناير فقد احتضن الجيش ثورة الشعب ووفر لها الحماية وأقر مطالبها المشروعة فى أول بياناته، وكان موقفه واضحا بأنه سيقود البلاد لفترة انتقالية وتعهد بحماية الديمقراطية وتسليم البلاد لسلطة مدنية منتخبة.

كما أن الجيش فى ثورة 52 كان معبرا عن إرادة واحتياج شعب لم تتوفر له إمكانيات القيام بثورة فقام بها أبناء الشعب من الجيش بما يمتلكونه من وعى وإمكانيات، ودليل ذلك أن الشعب التف فورا بجميع أطيافه حول الجيش .. أما ثورة 25 يناير فكانت شرارة البداية من الشعب الذى وصل لدرجة من الوعى بحقوقه تمكنه من المطالبة بها دون وصاية وكان الجيش إحدى فئات هذا الشعب، كما كان للجيش فى الثورتين الكلمة الأخيرة .. ففى ثورة يوليو عزل الملك وفى الثانية تم إسقاط نظام مبارك .. لقد أثبتت ثورتا يوليو 52 ويناير 2011 أن الشعب والجيش كيان واحد. أما الاختلاف بين الثورتين فيتمثل فى أن ثورة يوليو أحد مبادئها بناء جيش مصرى حديث على عكس ثورة 25 يناير فمصر بها جيش قوى وحديث ومدرب، كما عرفت ثورة 23 يوليو بثورة الترانزستور، وهو الراديو الصغير الذى كان يحمله الفلاح فى الحقل والعامل فى المصنع وكان فى ذلك الوقت أحدث وسائل التكنولوجيا، بينما ثورة 25 يناير 2011 استخدمت فيها قمة التكنولوجيا الحديثة والتى تتمثل فى الانترنت والفيس بوك، وسميت لذلك ثورة الفيس بوك أو على حد تعبير العالم المصرى الكبير أحمد زويل الفيس مصر .

إن ثورة يوليو لم تنته ومستمرة وامتدادها ثورة 25 يناير، فثورة يوليو من الثورات العظيمة فى تاريخ الشعوب فهى ثورة تحرر وطنى على الصعيد الداخلى من خلال

دعوة المواطن إلى أن يرفع رأسه بعد أن ولى عهد الظلم والاستعباد والذى كانت تجلياته واضحة فى العلاقة التى كانت قائمة بين ملاك الأراضى الزراعية والفلاحين والتى كانت أشبه بعلاقة السيد بالعبد فى ظل نظام إقطاعى مهيمن على مصر فى سنوات ما قبل الثورة كانت تهدر فيه كرامة الإنسان، فجاءت الثورة لتسهم فى تحرير المواطن المصرى من هذه الأوضاع.وثورة يوليو أيضا ثورة استقلال وطنى حيث ركزت على خيار التحرر من الاستعمار التقليدى، فقد كان فى مصر وحدها حوالى 82 ألف جندى بريطانى على أراضيها، كما كانت قاعدة للتحرر الوطنى فى كل من أفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينية، ورفض الأحلاف الدولية فى زمن صراعات الدول الكبرى، وذلك كله دليل على عظمة تلك الثورة.

لقد كان كل شىء فى مصر يطالب بالثورة وينتظرها بدليل تجاوب الشعب المصرى بجميع فئاته معها فقد كانت تحكم البلاد ثلاث سلطات، سلطة القصر وعلى رأسها الملك وسلطة الاحتلال البريطانى التى تلوح بالجلاء من وقت لآخر وسلطة وطنية تمثلها التظاهرات الطلابية والحركات الشعبية.

وفى نفس الوقت، فقد تزامن مع قيام الثورة مجموعة من الظروف الإقليمية والدولية ساعدتها على القيام بدور فعال على الساحة الدولية منها ظهور العديد من المنظات الدولية على رأسها الأمم المتحدة التى قامت على مبدأ المساواة بين كل الدول ودعا ميثاقها إلى احترام مبدأ تساوى الشعوب وحقها فى تقرير المصير مما اعتبر بداية

لبزوغ عصر التحرر الوطنى، كما تزامن قيام الثورة مع تزايد موجة التحررالوطنى التى خاضتها العديد من شعوب العالم الثالث، وقد دعم كل هذه الظروف عامل مهم هو شخصية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الطموحة ذات التوجه الاستقلالى والتى مكنته من الظهور كزعيم قومى وسط قادة العالم الثالث نتيجة المعارك السياسية التى خاضها.

وفى ظل هذا المناخ، قامت ثورة يوليو 52 وأعلنت مبادئها الستة التى عبرت عن طموحات ومطالب الشعب والتى كانت من أسباب نجاحها، وهى القضاء على الاستعمار وأعوانه، والقضاء على الإقطاع، والقضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال، وإقامة عدالة اجتماعية، وإقامة جيش وطنى قوى، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة.وبدأت الثورة خطواتها الأولى بعزل الملك عن العرش وتنازله لابنه الطفل أحمد فؤاد، وفى 18 يونيو 1953 ألغت الثورة الملكية وقيام أول جمهورية وتولى اللواء محمد نجيب رئاسة الجمهورية، وحلت الأحزاب السياسية بعد أن عجزت عن المقاومة أمام النظام الجديد.

واتخذت الثورة مجموعة من الإجراءات للقضاء على الإقطاع وإعادة توزيع الأراضى على الفلاحين بإصدار قوانين الإصلاح الزراعى وجعل الحد الأقصى مائتى فدان وتمليك الأراضى للفلاحين ليحصد الفلاح لأول مرة فى حياته ما يقوم بزراعته، وأقامت الثورة مجموعة من المشروعات الزراعية مثل مشروع مديرية التحرير.

كما جسدت الثورة حلم المصريين فى وطن مرفوع الرأس، فوقعت اتفاقية الجلاء فى 20 أكتوبر عام 54 بعد 74 عاما من الاحتلال، وواصلت الثورة تحقيق أهدافها ولهذا خاضت معارك كثيرة أهمها معركة تأميم قناة السويس فى 26 يوليو 1956 ردا على قرار المؤامرة الدولية برفض تمويل مشروع السد العالى.

وحرصت الثورة على القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال من خلال قوانين يوليو الاشتراكية عامى 1961، و1964 لتأميم قطاعات واسعة من الاقتصاد المصرى فى المجالات الصناعية والتجارية والخدمية وإشراك العمال فى مجالس إداراتها، وكانت قرارات التأميم الصادرة هى حجر الزاوية فى تغيير النظام الاقتصادى. واتجهت الثورة بعد ذلك لتمصير البنوك الأجنبية، وأيضا إقامة قاعدة صناعية ضخمة بإنشاء سلسلة من المصانع العملاقة كمصانع الحديد والصلب والأسمنت والأسمدة والألومنيوم بخلاف المناطق الصناعية بمختلف أنحاء الجمهورية، وتحقيق العدالة الاجتماعية.

واهتمت الثورة بالتعليم ومجانية التعليم وبناء الصروح التعليمية، وفتحت الباب أمام الشعب للمشاركة فى بناء نهضة تعليمية وعلمية غير مسبوقة فى التاريخ المصرى المعاصر، وامتد اهتمامها إلى المجال الثقافى فأنشأت قصور الثقافة والمراكز الثقافية لتحقيق توزيع ديمقراطى وتعويض مناطق طال حرمانها من ثمرات الإبداع، وتم إنشاء أكاديمية الفنون التى تضم المعاهد العليا للمسرح والسنيما والنقد.وفى مجال الصحة، وفرت ثورة 23 يوليو الرعاية الصحية لأكبر عدد من المواطنين وخاصة الطبقات غير القادرة ووضعت نظام تأمين صحى يتوافق مع احتياجات الطبقة العاملة المصرية، وزادت أعداد المستشفيات.

ونجحت الثورة بشكل سريع فى بناء جيش قوى، أحد أهداف الثورة، بسبب قناعتهم بأهمية جيش مصر حيث تنوعت مصادر السلاح مما انعكس على التدريب وشاركت معظم قيادات الجيش فى دراسات متقدمة فى أكاديمية الاتحاد السوفيتى وباقى دول الكتلة الشرقية.

أما الهدف السادس وهو إقامة حياة ديمقراطية سليمة .. فثورة يوليو وضعت بذرة الحياة الديمقراطية بإصدار دستور 1956 الذى نص على إقامة تنظيم جديد هو الاتحاد القومى ثم حل محله الاتحاد الاشتراكى بعد ست سنوات وبعد نكسة 67 تم إصدار بيان 30 مارس 1968 الذى نص على تحويل مصر إلى مجتمع مفتوح وقبول الرأى والرأى الآخر. ولكن هناك بعض الآراء ترى أن الثورة تأخرت فى تطبيق مبدأ الديمقراطية إلى الحد الذى جعلهم يصفونها بأنها كانت فى حالة مخاصمة لها ولكن يرى بعض المراقبين أن ذلك يرجع إلى سلسلة الحروب التى فرضت عليها بداية من حرب 56 ثم حرب 67 ثم الأزمات المتتالية التى واجهتها الثورة والتى كان العامل الخارجى فيها قويا سواء فيما يتعلق ببناء السد العالى أو الحصول على السلاح من الخارج.

واتخذت الثورة سياسة خارجية طموحة استندت على تاريخ مصر وموقعها الجغرافى وحددت ثلاث دوائر للتحرك الخارجى (العالم العربى والإسلامى، والقارة الأفريقية، والدائرة الأفرو آسيوية)، فاهتمت الثورة بالقضية الفلسطينية التى كانت فى مقدمة قضايا التحرر الوطنى ولعبت دورا بارزا فى عرض القضية أمام المحافل الدولية وأيدت حقوق الشعب الفلسطينى وحث المجتمع الدولى على القيام بدوره فى حل القضية، وساعدت فى إنشاء حركة فتح ثم منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964.

كما قدمت الثورة الدعم لحركات التحرر الوطنى فى الجزائر، وتونس، والمغرب، واليمن، والعراق، والسودان، وليبيا، والتفت الحركات الوطنية فى العالم العربى حول الثورة المصرية وتجاوبت مع أفكارها.وانطلاقا من تفاعل الشعوب العربية مع الثورة المصرية من المحيط إلى الخليج فقد تبنت الثورة فكرة القومية العربية وحلم تحقيق الوحدة بين شعوب الوطن العربى.

أما على الصعيد الأفريقى فقد لعبت الثورة دورا حيويا فى تحرير دول القارة من القوى الاستعمارية حيث كانت جميعها خاضعة للاستعمار ماعدا دولتين فقط هما ليبيريا فى الغرب وأثيوبيا فى الشرق، وقد أكد جمال عبد الناصر فى كتابه (فلسفة الثورة) أنه ليس بمقدور مصر أن تقف بعيدا عن الصراع الدائر فى هذه القارة بين 5 ملايين أوروبى و200 مليون أفريقى فى إشارة إلى النظام العنصرى فى جنوب أفريقيا وغيرها من الدول الأفريقية وهو ما حول القاهرة إلى مركز رئيس لحركة التحرر الوطنى فى أفريقيا، فساندت مصر الثورات فى كينيا والكاميون والكونغو وأنجولا وموزمبيق ووقفت مع شعب روديسيا (زيمبابوى حاليا). وكان لمصر أيضا دور رئيسى فى تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية عام 1963 وساعدتها على تحقيق أهدافها.

وعلى صعيد دول العالم الثالث، فقد ساهمت مصر فى نشأة حركة التضامن بين قارتى آسيا وأفريقيا حيث عقد مؤتمر باندونج عام 1955 ومن مؤتمر باندونج شاركت مصر فى تأسيس حركة عدم الانحياز وعقد المؤتمر الأول عام 1962. لقد امتد تأثير ثورة 23 يوليو إلى أبعد من حدود زمانها ومكانها فسطع نورها فى كل أنحاء العالم ورغم كل المتغيرات التى شهدتها على الساحتين الإقليمية والدولية فالثورة لم تعزل نفسها عن متغيرات العصر بل تواصلت وصححت مسارها لسلامة المسيرة الوطنية لأن حركة التاريخ مستمرة لاتتوقف.