محمد صلاح زيد يكتب : محمد مندور (ناقد خانته أقداره).. محمد مندور (شيخ النقاد العرب)

ركن القراء

بوابة الفجر


لم يكن مندور ناقدا عاديا في ذلك الوقت، بل كان ناقدا فذا رصينا، صاحب وعي نقدي مبكر، أسهم به في تشكيل الوعي النقدي الحقيقي ﻷجيال لاحقة من النقاد العرب.
البداية:
خرج محمد مندور من قريته (كفر مندور) بالقرب من منيا القمح بمديرية الشرقية عام 1921م إلى طنطا؛ ليدرس في مدرستها الثانوية، وفي مدرسة طنطا الثانوية تخرج مندور في القسم الأدبي لها عام 1925م، حاصلا على الشهادة الثانوية العامة، متفوقا وكان ترتيبه الثاني عشر على القطر المصري كله، ولرغبة قديمة لدى مندور في أن يصبح وكيل نيابة؛ التحق بكلية الحقوق في جامعة فؤاد الأول (القاهرة)، ثم شاءت أقداره أن يلتقي بالدكتور طه حسين، والذي بدوره نصحه بدراسة اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب، ولإعجاب مندور بطه حسين وتأثره بفكره وقناعته به في ذلك الوقت؛ التحق بكلية الآداب منتسبا إلى قسم اللغة العربية؛ ليصبح إلى جوار أستاذه (طه حسين)، لكنه لم يترك كلية الحقوق أيضا، بل جمع بينهما، وفي نفس العام 1925م يلتقي مندور بأحد الأساتذة الأجانب في قسم الاجتماع بكلية الآداب، ولما أعجب أستاذ الاجتماع باجتهاد مندور في مادته نصحه بأن يلتحق بقسم الاجتماع؛ ليدرس فيه، وبالفعل التحق مندور بقسم الاجتماع في كلية الآداب؛ ليصبح طالبا في الحقوق والآداب قسم اللغة العربية وقسم الاجتماع معا، لكن مندور لم ينس حلمه القديم بأن يصبح وكيل نيابة، حتى أتم دراسته في كلية الآداب بقسمي اللغة العربية والاجتماع، وتخرج فيهما عام 1929م، وكان ترتيبه الأول، لكنه بقيت له سنة خامسة في كلية الحقوق.
في جامعة السربون:
وفي نفس العام 1929م قررت جامعة فؤاد الأول إرسال مندور ضمن بعثة علمية تتكون من أبناء الجامعة إلى جامعة السربون بفرنسا، للحصول على درجتي الليسانس والدكتوراه منها، وأرجيء السفر لمدة عام، حتى يتعلم المبتعثون فيه اللغة الفرنسية؛ مما أتاح لمندور بجانب تعلم الفرنسية إتمام دراسة الحقوق، والحصول على شهادة الليسانس فيه، وفي عام 1930م تقرر سفر مندور إلى فرنسا، ووضع مندور في خيار صعب بين البقاء في مصر وتحقيق حلمه القديم من خلال العمل كوكيل للنيابة، وبين السفر إلى فرنسا للحصول على ليسانس في الآداب واللغات اليونانية القديمة واللاتينية، ثم الحصول على الدكتوراه في الأدب العربي على يد أحد المستشرقين في جامعة السربون، لكن سفر مندور كاد يلغى بسبب عدم لياقته في الكشف الطبي المؤهل للسفر؛ لضعف بصره، لولا تدخل طه حسين، والذي ذهب به إلى وزير المعارف وقتها "محمد حلمي عيسى" طالبا منه إعفاء مندور من الكشف الطبي، وإتمام سفره، فما كان من الوزير إلا أن استجاب لطلب طه حسين، وسافر مندور إلى فرنسا عام 1930م وحصل من جامعة السربون على ليسانس الآداب واللغات اليونانية القديمة واللاتينية، ودرس في معهد الأصوات هناك دراسة معملية، إلا إنه فشل في الحصول على درجة الدكتوراه.
ما بعد العودة من جامعة السربون:
عاد مندور إلى مصر عام 1939م، قبيل الحرب العالمية الثانية، دون الحصول على الدكتوراه، بعدما أمضى تسع سنوات في فرنسا، وعندما عاد كان أحمد أمين عميد كلية الآداب، إلا أن طه حسين قد رفض أن يدرس مندور في قسم اللغة العربية، وكانت العلاقة قد ساءت بين مندور وشيخه الأول طه حسين؛ ﻷن مندور في رأي طه حسين قد فشل في الحصول على الدكتوراه من جامعة السربون؛ مما أغضبه منه، وإن كانت قد تحسنت العلاقة مجددا بين مندور وشيخه طه حسين، وقام طه حسين بتعيينه محاضرا في قسم اللغة العربية في كلية الآداب جامعة الإسكندرية، وفي الوقت ذاته تقدم مندور لجامعة فؤاد الأول (القاهرة)؛ للحصول على الدكتوراه بإشراف أحمد أمين، وعندما علم طه حسين غضب مرة أخرى على محمد مندور، وأعلن أنه لن يعترف بهذه الدكتوراه، ورفض الاشتراك في لجنة مناقشتها.
خارج أسوار الجامعة:
وفي عام 1943م حصل مندور على درجة الدكتوراه من جامعة فؤاد الأول، بتقدير: درجة الشرف الممتازة، تحت عنوان: "تيارات النقد العربي في القرن الرابع الهجري"، وقد طُبع هذا البحث لاحقًا عدة مرات في كتاب عنوانه "النقد المنهجي عند العرب"، الذي صار مرجعًا جامعيًا من المراجع الأساسية في دراسة الأدب.
وبعدها تقدم مندور بطلب ترقية إلى وظيفة مدرس لطه حسين بصفته مديرا لجامعة الإسكندرية، وكانت العلاقة بينهما قد ساءت ﻷقصى درجاتها، فرفض طه حسين طلبه، مما جعل مندور يتقدم باستقالته من الجامعة، منهييا بذلك وجوده داخل أسوار الجامعة، واتجه بعد ذلك للعمل في الصحافة والسياسة، ثم المحاماة، ثم عاد مجددا بعد الثورة للكتابة والترجمة والتأليف، بعدما منع من العمل السياسي، عقب صدور قانون العزل السياسي، والذي نص على حرمان من اشتغلوا بالسياسة قبل الثورة أن يمارسوا العمل فيها مجددا.
البداية مرة أخيرة:
توفي مندور عام 1965م، تاركا خلفه منهجا نقديا رصينا ضمنه مؤلفاته، ولم يقتصر جهد مندور النقدي على متابعة الأعمال الشعرية والروائية والقصصية والمسرحية والكتابة النقدية عنها فحسب، لكنه تجاوز ذلك الي كتابة دراسات نقدية تابع فيها التراث النقدي الذي تركه «ابن قتيبة» و«ابن المعتز» و«قدامة بن جعفر» و«الآمدي» و«ابن جني» و«الجرجاني» و«الثعالبي»، وغيرهم من نقاد العربية الكبار.
ولم تتوقف كتاباته عند النقاد القدامى، لكنه تابعها، وكتب العديد من المقالات، منها: ماهو عن طه حسين، حول كتابه في نقد أبي العلاء، واختلف مندور مع العقاد وهاجمه بجرأة.
كما انتقد المازني، ووصف منهجه بانه أضيق من أن يتسع لألوان من الشعر الصوفي والدرامي، كما ترك خلفه ترجمات ﻷعمال أدبية عالمية.