نصار عبدالله يكتب: فوزية جادالله

مقالات الرأي



من الناس من يعيشون شامخين، وحين يموتون، يموتون كالأشجار واقفين فوزية جادالله واحدة من هؤلاء، حين ماتت كانت لا تزال فى الميدان الذى عاشت فيه حياتها كلها تقريبا، ميدان العلم والتعليم، حين ماتت كانت لا تزال شامخة كأنها منارة أو مئذنة، كانت قد خرّجت آلافا من الطلاب الذين درست لهم طيلة حياتها العلمية التى تربو على أربعين عاما، وكانت قد قدمت لمصر عشرات التلاميذ الذين تتلمذوا على يديها وحصلوا على الماجستير والدكتوراه وأصبح بعضهم أساتذة فى أعرق الجامعات المصرية والعربية وبعد هذه الرحلة الطويلة كانت لا تزال فى الميدان تبذل نفس الجهد الذى ظلت تبذله على مدى أربعين عاما، منذ أسبوعين شاركت فى مناقشة رسالة الماجستير التى أعدتها إحدى تلميذاتها «أمانى عبدالصبور»، ووقعت على كل التقارير والأوراق المطلوبة للتوصية بمنح الدرجة، بعدها مباشرة سقطت ميتة! ويالها من نهاية أشبه ما تكون بنهايات الدراما الإغريقية التى عاشت تستشهد بها كأستاذ للدراما بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب بسوهاج.. عندما ينجح البطل الإغريقى فى إنجاز المهمة التى نذر حياته من أجلها وبعدها يسقط ميتا.. عرفت الدكتورة فوزية وتزاملت معها فى نفس الجامعة التى أعمل فيها منذ أواخر سبعينيات القرن الماضى ...يوم تأبينها كنت مريضا فلم أشارك فى التأبين رغم أنى كانت تربطنى بها صلة عميقة من المودة الخالصة، ورغم أنى تشاركت معها على مدى سنوات فى عضوية مجلس إدارة مركز اللغة الذى أنشأته جامعة سوهاج منذ ما يقرب من ربع القرن.. وقد أسفت كثيرا لأن أحوالى الصحية المضطربة فى الآونة الأخيرة قد حالت بينى وبين المشاركة فى تأبين الدكتورة فوزية جاد الله، لا باعتبارها زميلة عزيزة فحسب، ولكن باعتبارها رمزا من رموز مؤسسى قسم اللغة الإنجليزية وآدابها بكلية الآداب بجامعة سوهاج ورمزا من رموز الجامعة بوجه عام، يكفى فى هذا المجال أن نشير إلى أن بعض خريجى ذلك القسم «ومن بينهم من أصبحوا أساتذة فيما بعد» قد تفوقوا فى مناسبات شتى على خريجى الجامعة الأمريكية، على سبيل المثال بهاء مزيد الذى تقدم منذ أعوام لمسابقة دولية كان ينافسه فيها خريجو الجامعة الأمريكية وخريجو قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة، وكان هو الفائز الأول بفارق كبير يفصله عن الثانى، ونموذج بهاء مزيد ليس هو النموذج الوحيد من نماذج ثمار ذلك الغرس الفريد الذى بذرت بذوره الأولى فوزية جادالله ، فغيره نماذج كثيرة لا يتسع المجال لذكرها، لكنها قد أشاد بها أساتذة ونقاد عالميون مثل تيرى إيجلتون «الذى درس للدكتور إسماعيل عبدالغنى» ومثل إدوارد سعيد الذى كانت نظريته النقدية موضوعا لرسالة الدكتوراه التى تقدم بها سمير عبدالنعيم وأشرفت عليها الدكتورة رضوى عاشور.. رحم الله فوزية جادالله وبارك فى الثمار الطيبة التى غرستها والتى أشرنا فقط إلى مجرد أمثلة منها، لكن غيرها مما تركته كثير بل إنه فى الحقيقة أكثر من كثير.