خرج فى زحمة الصيف.. ولم يعد

العدد الأسبوعي

محمد خان - صورة أرشيفية
محمد خان - صورة أرشيفية


دون مقدمات وفجأة.. سقط خبر وفاة المخرج الكبير محمد خان على رءوس الجميع، طبيعة الرجل جعلت من تخيل فكرة موته -على الرغم من حتمية حدوثها- صعبة التصديق والوقوع، الفنان الذى يشاكس الجميع مبتسمًا وغاضبًا، يدافع عما يراه حقًا ويتراجع ويعتذر عما ظنه صحيحًا واكتشف أنه خطأ فيما بعد، الطفل الكبير الذى لم يتوقف سعيه وراء ما يريد، حصل على الجنسية المصرية بعد تخطيه السبعين عامًا رغم سعيه لنيلها قبل ذلك بسنوات طويلة، يدافع بشراسة عن إنتاج افلامه ويسعى لأن تخرج إلى النور رغم كل المعوقات التى يذللها قدر استطاعته، وقلقه مع اقتراب موعد عرض فيلمه وبعد عرضه للجمهور مباشرة ينسى القلق وكل شىء ويفكر فى فيلمه المقبل.

حلقة مفرغة سار داخلها المخرج العبقرى بدأب دون كلل منذ أن كان شابًا ندهت عليه السينما ليسلك طريقها وظل يجدد شبابه ويولد من جديد مع ظهور كل فيلم يحمل اسمه، يجدد ويصنع مصرا مختلفة بمشاهد أفلامه بل ويصنع نجومه بشكل لم يره الجمهور من قبل، ربما يكره بعض النجوم الصورة التى صنعها لهم فى أفلامه لكن بالتأكيد معظمهم أحبها والأكيد أيضًا أنها مختلفة ومبدعة أثرت وحفرت طريقًا طويلًا ممتدا منذ نهاية السبعينيات فى مصر وحتى فترة قريبة وقبل وفاته.


1- ظهر كبيرًا.. وتجدد باستمرار

انطلاقة خان الأولى ذات التأثير الكبير من خلال فيلم "ضربة شمس" تؤكد أنه ولد كبيرًا، مخرج محترف خطوته الأولى لم تكن مرتعشة أو تبحث عن أسلوبه، أو حتى يجاهد ليصنع اسمًا، اسهل ما يمكن وبأبسط الطرق وفى نفس الوقت بأعلى قدر من الاحترافية والصبغة الفنية المتوازنة مع نظيرتها التجارية، وهو التوازن الذى يغيب كثيرًا عن المخرجين المحترفين منهم والهواة، تغلب إحدى الصبغتين على أعمالهم دون أن يصلوا للتوازن المطلوب بينهما.

"ضربة شمس" يعد تأريخا مهما للقاهرة المدينة العاصمة فى مطلع ثمانينيات القرن الماضى بناسها وشوارعها، لقطات بزوايا مختلفة لأكثر من منطقة فى المدينة القديمة، حركة الناس التى تختلف باختلاف الوقت على مدار اليوم، المدينة التى تتشكل بالأشكال التى تمر فى شوارعها، كلها ظاهرة فى كاميرا خان، يعبر عن واقع اجتماعى صارم وصادم بعد فترة من الأفلام الكوميدية التى كانت متسيدة دون أن تجد من ينافسها سوى أفلام المقاولات، خان اختار أن يتميز ببساطة ومع أول مشاهد أفلامه التجارية ليصنع فيلماً تشويقيا وجريمة ويتجول بنا فى شوارع المدينة ليلًا ونهارًا عارضًا للتغيرات الكبرى التى طرأت على الشخصية المصرية بعد الحلم الناصرى وقسوة الهزيمة والانتصار والانفتاح، ليظل هذا الفيلم تحديدًا وعدة أفلام تالية مؤشرا مهما عن هذه الفترة عامة وعن القاهرة خاصة التى مازال يعانى سكانها من التنازع بين هويتين بقايا نمط أوروبى متحرر وسطوة مد دينى واجتماعى رجعى قادم.


2- تعامل مع الكل.. ونجح معهم

أحمد زكى، نور الشريف، محمود حميدة، عادل إمام، هند صبرى، ياسمين رئيس، خالد أبوالنجا وغيرهم من النجوم الذين تعامل معهم خان على مدار مسيرته الفنية كلهم على اختلاف شعبيتهم وقدراتهم التمثيلية إلا أنه نجح فى أن يصنع شخصية مميزة ومختلفة لكل منهم حميدة فى "فارس المدينة" غير أى حميدة آخر، أفضل شخصية قدمها عادل إمام فى تاريخه الممتد هى فارس "الحريف".

حتى أحمد زكى المتلون صاحب الشخصيات المتعددة يظهر مختلفًا مع خان، المقارنة البسيطة والسريعة ما بين دوريه فى "زوجة رجل مهم" بكل إسقاطاته السياسية والاجتماعية وصبغته الفنية الطاغية وشخصيته فى "مستر كاراتيه" بصبغته التجارية الغالبة على الرغم من أن الفارق الزمنى بينهما ليس كبيرًا إلا أن شخصية زكى على الشاشة فى الفيلمين مختلفة تماما ورؤية خان فى كل منهما صنعت شخصيتين من طين أرض هذا البلد بشكل يستحيل على مخرج أن يظهرهم بهذه الحيوية على اختلاف طبيعة توجه الفيلمين.

خان جعلنا نتقبل بكل سلاسة نجلاء فتحى كسيدة من سكان العشوائيات ومن طبقة احتماعية دنيا فى "أحلام هند وكاميليا"، وكذلك ياسمين رئيس فى "فتاة المصنع" وذلك مع الملامح الأوروبية فى الشكل عند الأولى والخلفية التى يستدعيها ظهورها عند المشاهد، وشخصية فتاة الطبقة الوسطى التى توحى بها الثانية عند ظهورها فى الأعمال الفنية، وجعل من هند صبرى "بنت بلد" صميمة فى "بنات وسط البلد" ومن غادة عادل فتاة بسيطة حالمة فى "شقة مصر الجديدة".. كل هذه النماذج وغيرها تلاعب خان بحرفية فى صورتهم عند الجمهور واستغل أسماءهم وشعبياتهم وقدراتهم بما يخدم أفلامه ووظفهم بشكل مغاير ومختلف وبقدر لا بأس به من المخاطرة تنفيذًا لرؤيته التى أصر عليها دومًا وأبدًا وكانت تنجح فى النهاية رغم التشكيك.


3- «قبل زحمة الصيف» الرحيل والخاتمة

فى شهر يوليو وقبل زحام الصيف مثل عنوان آخر أفلامه، ترك خان هذه العتبة وارتقى لعتبة أخرى، لينهى بها مشروعه الذى كان حتى الأمس قوسًا مفتوحًا بالفعل، فخان لم يكن مخرجًا تتوقع أن معينه سينضب يومًا، المشاكسة والنضال بالكاميرا صفة متأصلة فيه، الآراء كانت متضاربة حول خاتمة مشروعه السينمائى الضخم "قبل زحمة الصيف" لكن الآن تركنا ورحل وقد وجه صفعة ضخمة للأفلام المبسترة التى يطلق عليها "السينما النظيفة" بكل قيمها الزائفة، ترك فيلما يرسم ملامح تغيير محورى ومهم فى التركيبة المصرية الاجتماعية، للحد الذى يجعلنا نعرف بدقة من نقطة البداية فى فيلمه القصير "البطيخة" وحتى "قبل زحمة الصيف" كم التحولات الضخمة فى التركيبة المصرية بكل السلبيات والإيجابيات، مشروع مهم ربما أهم من الدراسات التى قد تحاول احتواء هذا الكم الضخم من المعلومات فى ما يزيد على نصف قرن من الزمان.، لذلك الآراء المتضاربة حول الفيلم ستتضاءل أمام مشاهدة هذا المشروع السينمائى الناجح باقتدار ككل، خان ودعنا الجسد والمشروع باق معانا وبعدنا.