فترة الوحي وانقطاعه

إسلاميات

فترة الوحي وانقطاعه
فترة الوحي وانقطاعه


عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من لقائه مع ورقة بن نوفل وقد ازداد حماسة للعمل، وقرَّر أن يذهب مرَّة ثانية إلى الغار ليُقابل جبريل عليه السلام؛ ليسمع منه أوامر ربِّه، وماذا سيفعل في رسالته، وبالفعل عاد صلى الله عليه وسلم إلى الغار، وبقي فيه عدَّة أيام؛ ولكن لم يأتِ جبريل عليه السلام!

حَزِنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لغياب جبريل عليه السلام، وفي رواية للسيدة عائشة رضي الله عنها في البخاري تقول: "وَفَتَرَ الوَحْيُ فَتْرَةً، حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم".

مدة انقطاع الوحي

ومعنى فترة الوحي أي انقطاعه، والوحيُ انقطعَ مدَّة اختلف علماء السيرة في تحديدها؛ فمنهم مَنْ قال: إنها أيام قليلة قد تكون ثلاثة أو أكثر. ومنهم مَنْ وصل بها إلى عدَّة شهور، ومنهم مَنْ تجاوز في ذلك وقال: إنها وصلت إلى سنوات ثلاث كاملة .

وأعتقد أن الاختلاف نشأ من الخلط بين مرَّتين حدث فيهما فترة للوحي، أمَّا المرَّة الأولى فهي التي بين أيدينا الآن، وهي التي أعقبها نزول صدر سورة المدثر، وأما المرَّة الثانية فستحدث أثناء العهد المكي، بعد عدَّة سنوات، وهي التي سيعقبها نزول سورة الضحى، والله أعلم.

والذي أتوقَّعه أن تكون هذه الفترة عدَّة أيام، أقل من العشرة؛ لأن المعروف أن أول رؤية رأى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل على الحقيقة كانت في العشر الأواخر من رمضان في ليلة القدر؛ لأن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3]، ويقول كذلك: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، فنزول القرآن الكريم الأول كان في ليلة القدر، وأول نزول كان عند قول الله عز وجل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1].

ولكننا لا ندري أي ليلة وترية في العشر الأواخر كانت هذه الليلة؛ ولذلك فلسنا نعرف على وجه اليقين مدَّة هذه الفترة، ثم يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو يصف عودة الوحي كما جاء في صحيح مسلم: "جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي نَزَلْتُ .." إلى آخر الرواية، وجاء في هذه الرواية أن جبريل عليه السلام قد جاء مرَّة ثانية، ورآه صلى الله عليه وسلم خارج الغار واقفًا كذلك في السماء، ومعنى هذا أن عودة الوحي كانت بعد انتهاء شهر رمضان مباشرة، والذي كان يُجاور فيه صلى الله عليه وسلم في غار حراء، وكانت الفترة على ذلك عدَّة أيام من يوم المقابلة مع جبريل في إحدى الليالي الوترية إلى ليلة الأول من شوال عندما أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره في غار حراء.

الحكمة من فترة الوحي وانقطاعه

أما الحكمة الكاملة من وراء هذه الفترة فلا يعلمها إلا الله عز وجل، ولكن بالتدبُّر في فائدتها نرى أن هذا كان غالبًا لدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التشوُّق للرسالة والبحث عنها، وهو ما رأيناه في سلوكه صلى الله عليه وسلم عندما غاب عليه الوحي، فكان يُكثر من التردُّد على الجبال لعلَّه يلقى جبريل عليه السلام، وهذا التشوُّق في غاية الأهمية لحمل الرسالة؛ لأن المهمَّة ثقيلة للغاية، وكبيرة بدرجة لا تُقارن بمهمَّة أخرى من مهام الدنيا.

ولن يستطيع حمل هذه الرسالة أو الأمانة إلا مَنْ يدرك شرف حملها، أما الذي يشعر أنه كُلِّف أمرًا وهو "مضطر" إلى قبوله فلن يكون أداؤه على الوجه الأمثل أبدًا، فهذا الذي من ورائه تأخَّر الوحي، وجعل الرسولَ صلى الله عليه وسلم في حالة اشتياق مستمرٍّ إلى رؤية جبريل عليه السلام؛ وبالتالي عندما ظهر جبريل عليه السلام مرَّة ثانية كان الرسول صلى الله عليه وسلم متحمِّسًا للغاية ليقوم بالعمل، وهو ما رأيناه فعلاً في واقع حياته منذ التقائه به مرَّة ثانية، وإلى آخر لحظة من لحظات حياته صلى الله عليه وسلم.

شبهة محاولة انتحار النبي صلى الله عليه وسلم

أمَّا ما قيل عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاول أن يتردَّى من الجبال في هذه الفترة؛ أي حاول الانتحار نتيجة الحزن الشديد الذي عرض له نتيجة انقطاع الوحي، فإن هذا في رأيي ليس صحيحًا.

والسبب أن السند لهذه القصة ضعيف، مع أنه ورد في البخاري! فإن البخاري ذكره كأحد مراسيل الزهري، ولم يذكر الزهري سندًا لهذه الكلمات التي وصف فيها محاولات الرسول صلى الله عليه وسلم التردِّي من الجبال عندما تأخَّر الوحي، والزهري أحد العلماء الكبار، ولكن لا تُقبل رواياته دون سند؛ بل قال يحيى بن سعيد القطان وهو من العلماء الثقات، ومن علماء الحديث المشهورين في تاريخ الإسلام، قال: "مُرْسَلُ الزُّهْرِيِّ شَرٌّ مِنْ مُرْسَلِ غَيْرِهِ؛ لأَنَّهُ حَافِظٌ، وَكُلُّ مَا قَدِرَ أَنْ يُسَمِّيَ سَمَّى، وَإِنَّمَا يَتْرُكُ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَنْ يُسَمِّيَه" .

فالسند الضعيف لا يُعتمد عليه؛ خاصة في مثل هذا الأمر الكبير، كما أن المعنى في هذا الأمر غير صحيح؛ نعم حَزِنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن -كما رأينا- صارت عنده التأكيدات الكثيرة والواضحة أنه رسول الله، حتى لو كان الذي يراه وهمًا، فليس من المقبول عند عامَّة الناس أن يكون العلاج هو قتل النفس، فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم أحكم البشر، وأعقل العالمين.

وبذلك فنحن نردُّ هذا الخبر، ونعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فعلاً إلى الجبال حزينًا؛ لكنه خرج ليبحث عن جبريل عليه السلام لا ليُلْقِيَ نفسه في الهاوية كما تقول الرواية.