حسام زيدان يكتب: الآثار تعيد كتابة التاريخ

مقالات الرأي

حسام زيدان
حسام زيدان


"كشف أثري جديد" عبارة رنانة، خبر تطيره الصحف يمينًا ويسارًا، مادة خصبة للمصورين لالتقاط حشد من الصور التي قد لا يستطيعون إدراكها مستقبلًا، رصيد مصر السياحي سيرتفع، سيجد السائحين جديدًا يرونه بدلًا من قناع توت عنخ آمون أو المومياوات المحفوظة. 

كل ما سبق هو أهداف عدة ومكاسب يحصدها الجميع من وراء أي كشف أثري جديد، ولكن ليست هذه هي مهمة علم الآثار، فعلم الآثار الذي لأجله تم تشييد الكليات بأفرعها المختلفة من دراسة تاريخية أثرية، وترميم، وإدارة متاحف، وإرشاد، لم يكن فقط كي نجتذب عدد أكبر من السائحين، أو لكي ينتشر اسم مصر في المحافل الدولية وفقط، بل الغرض الأساسي من الكشف عن الأثر هو معرفة ما يخفيه عنا التاريخ. 

حقب تاريخية كاملة لم يكتبها الإنسان ولم تدونها الكتب، أو فقدت المدونات عنها، فهناك فترات تاريخية لم يصل لنا عنها شيئاً مدوناً، فإما أن تاريخها المكتوب تم حرقه، أو فقده، أو أن الإنسان لم يكن قد عرف التدوين التاريخي بعد. 

عصور ما قبل الكتابة، أو عصور ما قبل التاريخ لم يصل لنا منها سوي أثار، وكل التاريخ المكتوب حالياً عنها هو علم تم استنتاجه من أثار الأقدمين التي خلفوها لنا، فهنا حجر تم شحذه علي شكل سكين، وهذا حجر تم نحته علي شكل إناء، وذلك الحجر تم تشكيله علي شكل معول، إذاً فهذا العصر الحجري. 

نعثر علي أدوات نحاسية، نجد حجراً وقد تم تثبيت قطعه من المعدن فوقه، أو قطعة خشب وبها معول معدني، وكل شيء من النحاس، إذاً فنحن في العصر النحاسي. 

وهكذا.. تنقل لنا الآثار أحداث التاريخ، نجد نقشًا في أعماق الصحراء يمثل الإنسان وهو يصيد، فنعرف أنه تعلم الصيد، ونجد نقشاً آخر وهو يرعي فنعرف أنه تعلم الرعي، ونجد نقشًا آخر وهو يزرع أو يحصد فنعرف أنه تعلم الزراعة، ثم نبدأ في رؤية دلائل الاستقرار، من بناء البيوت، وتكوين الحكومات، ثم الرغبة في تسجيل ما يجري من أحداث وتوثيقها فتنشأ الحاجة للكتابة، فيظهر التدوين، وتبدأ العصور التاريخية. 

وهنا تتعاظم أهمية الآثار، لأنه مع ظهور الكتابة ظهر المرض الإنساني الأزلي وهو تزوير التاريخ، أو نسيان تدوينه، أو الرغبة في تجميله، أو تشويهه، ولكن الأثار لا تكذب، فهي الدليل الحي الباقي الذي لم يندثر، وقد حفظه الله تعالي عن الأقدمين لكي نعرف أين الحق ونعتبر ونعتظ مما جري ونستدل علي ما يصلح لنا مستقبلنا. 

بدراسة الآثار نعرف الفجوات التي تركها الأقدمون ونسوا تدوينها أو تعمدوا عدم تدوينها، فمن دراسة المسكوكات "العملات المعدنية" عرفنا أن "شجرة الدر" اسمها الحقيقي "شجر الدر" وأنها تولت حكم مصر 80 يوماً، وعرفنا أيضاً أن "تورانشاة" اسمه الحقيقي "ترنشاة" وأنه حكم مصر 66 يوماً. 

بدراسة الآثار وتحديدًا من "بردية اهناسيا" عرفنا أن مصر تم فتحها علي فترة سبع أعوام من 18 هـ وحتى 25 هـ، والإسلام انتشر بها في 80 عاماً، وأن الجيش الإسلامي تم تزويده بالمؤمن من قِبل أهل مصر، فالبردية تسجل أن عبد الله بن جابر القائد المسلم، أخذ علي سبيل القرض 65 شاة من يوحنس ابن أبي قير القبطي، لأجل إطعام الجنود علي أن يتم ردها في حال تسليم هذا الصك لبيت المال. 

من دراسة نفس البردية نعرف أن العرب عرفوا ركوب البحر قبل الإسلام وليس كما هو مشهور بالمصادر من إن العرب كانوا يخافون ركوب البحر، فالبردية تحكي أن الأغنام التي تم استقراضها من يوحنس هي مقسمة بين جنود البر والبحر، إذاً فالأثر هنا عدل لنا ما قالته المصادر. 

من دراسة الآثار عرفنا أن ابن الملكة "حتشبسوت" محي اسمها من علي أبنيتها ومعابدها ونسبها لنفسه، كما عرفنا من دراسة الآثار كيف حارب المماليك سيطرة العملات الخارجية وتغلبوا عليها، كما عرفنا كيف أخطأ "خماروية" في حق مصر عندما أفلس خزانة بلاده بمهر ابنته "قطر الندي". 

من دراسة الآثار عرفنا أن بناء الكنيسة المعلقة كان في العصر الإسلامي، فحصن بابليون كان للبيزنطيين المحتلين مضطهدي أقباط مصر الذين لجأوا للأديرة في الصحاري هرباً من التعذيب، فكيف يتأتي أن يتم بناء كنيسة فوق برجيه، بالإضافة إلي أن النقوش الأثرية داخل الكنيسة ترجع للعصر المملوكي. 

دراسة الآثار علمتنا أن المصريين ليس اسمهم الفراعنة وانما اسمهم قدماء المصريين، فلقب "فرعون" لم يتم إطلاقه سوى على الملوك فقط من الأسرة الـ18 إلى الأسرة الـ25، أما باقي المصريين فاسمهم "قدماء المصريين" وحكامهم كان يطلق عليهم لفظة "ملك". 

دراسة الآثار علمتنا أن بناة الأهرام هم المصريين وبسواعدهم وأن مهندس بناء الهرم الأكبر هو المصري العبقري "حم أيونيو". 

دراسة الآثار علمتنا أن الحاكم بأمر الله الفاطمي هو من أمهر الفلكيين علي وجه الأرض، وأن الغرب لا يزال يعتمد علي قوانينه إلي اليوم. 

دراسة الآثار علمتنا أن عصر الدولة الأيوبية هو أكثر العصور تأثراً بالفن القبطي، وعرفنا كيف أن المصريين في هذا لعصر كانوا أكثر إنفتاحاً وتقبلاً للآخر. 

دراسة الآثار علمتنا أن الصحابة لما أتوا إلي مصر لم يعتدوا علي أثر ولم يشوهوا "تمثال"، وبنوا لأنفسهم الأضرحة، وأقدم أضرحة موجودة في العالم تقريباً في مصر بأسوان منذ عام 34 هـ . 

إن كل حجر يتم الكشف عنه، وكل تحفه قديمة، وكل مخطوطة، وكل مسكوكة، وكل تمثال، وكل أثر قديم، وكل قطعة عظام، وكل نقش علي حجر هو تاريخ ملموس يشرح لنا كيف كان الأقدمين يتعاملون، وكيف كانوا يتفاعلون، وكيف كانوا يحتكمون إلي شرائعهم ودينهم، وكيف كانوا يتعاطون مع دنياهم. 

إنه الجهل المطبق أن يتم إهمال الأثر أو عدم إدراك أهميته، أو الاستهانة به، أو التعامل معه علي أنه سلعة يتم اجتذاب المزيد من الدولارات بسببها. 

لذا فالتعامل مع الآثار يجب أن يكون بمنتهي الحرص، فرب نقش علي حجر يوضح لنا كيف كان يسير أمور العامة في حقبة تاريخية ما، فلو زال هذا النقش قبل تسجيله لأي سبب ضاعت منا معالم تاريخية مهمة لهذا العصر. 

تعاملنا كمصريين مع الأحجار القديمة وآثارنا من أي عصر علي أنها مجرد تحف للعرض جريمة في حق تاريخ بلادنا، فالآثار هي حديث الماضي، وتاريخنا الملموس، وبدراسة أثار كل عصر نستطيع أن نميز الطراز الخاص بكل عصر، وبذا نستطيع نسب تحفة معينة أو مخطوطة ما إلي حقبة معينة منا قد يغير مفهوم ووجهة مظر كانت قد تكونت بناء على نقل مصدر ما.

الآثار هي حديث الأقدمين وخربشات أصابعهم على الأحجار التي حاولت أن تترك لنا دليلاً ما، فهي حدث الماضي، وعلاماتنا الدالة في الحاضر، وإشارات الأجداد لرسم مستقبل أفضل.