عادل حمودة يكتب: مجدي يعقوب ومحمد صلاح.. حزب طرد المواهب من مصر

مقالات الرأي



كلا الموهبتين مثل المئات التى فرت من مصر إلى العالم الرحب حتى لا تسحق


ما الذى يجمع بين محمد صلاح ومجدى يعقوب؟

ولد مجدى يعقوب فى بلبيس (الشرقية) وولد محمد صلاح فى بسيون (الغربية) فجذورهما ضاربة فى التربة المصرية ولون عيونهما من لونها.

حصل مجدى يعقوب على لقب سير وجائزة فخر بريطانيا ووسام الاستحقاق البريطانى بجانب قلادة النيل والأهم لقب ملك القلوب الذى منحه إليه حب الناس وحصل محمد صلاح على جائزة أفضل لاعب فى إنجلترا وإفريقيا وجن ببراعته الصغار قبل الكبار.

تألقا عالميا دون أن يصابا بخدش فى أخلاقهما الرفيعة وأضاء قناديل الفرح ليشعا سعادة فى كل من حولهما وأقنعا محترفى التطرف بأن التسامح أبقى.

لكن.. هناك شىء سيىء يوحد بينهما.. سوء تقدير وسوء تمييز الشخص الذى عجز عن اكتشاف موهبة كل منهما وحكم عليها بالفشل ودفع بها للهجرة خارج الوطن لتجد نفسها فى أرض بعيدة بعد أن لفظتها الأرض القريبة.

تخرج مجدى يعقوب فى كلية الطب عام 1956 ملفتا النظر بشدة إلى تفوقه ولكن أستاذه فى قصر العينى الذى أعماه التعصب الدينى لم يقبل أن يكون جراح قلب وسعى جاهدا لتحطيمه وكسر جناحيه ولكن الطبيب الشاب رفض الحكم على موهبته بالإعدام ولم يتردد أهله فى إرساله إلى بريطانيا ليشق طريقه الصعب إلى القمة فى علم ودأب وصبر ليحقق أكثر مما تصور فى نفسه.

لم يكمل محمد صلاح تعليمه واكتفى لظروف مالية وعائلية بشهادة متواضعة من معهد لاسلكى ولكن شعوره بأن الكرة تستجب لضربات قدميه وترضخ لما يريد قاده للبحث عن فرصة فى أحد أندية القاهرة الشهيرة ولكنه لم يجد هناك سوى عيوننا لا ترى وآذانا لا تسمع وعقولا لا تستوعب وبكلمات مغرورة حكم عليه بالفشل وخرج من البوابات الخلفية، وهو يحمل شهادة عدم صلاحية فاكتفى بنادى المقاولون فى الإسماعيلية حتى وجد بين خبراء أجانب فى اللعبة من يختطفه كاشفا عن موهبة نادرة يصعب تكرارها رفعته فوق أعناق جماهير أكبر النوادى الأوروبية: بازل فى سويسرا وفيورنتينا وروما فى إيطاليا وتشيلسى وليفربول فى بريطانيا.

والمؤكد أننا لا نتذكر اسم أستاذ مجدى يعقوب الذى داس الشتلة قبل أن تنبت زهرة أما رئيس النادى الذى كرر المأساة نفسها مع محمد صلاح فيعانى من كلمات جارحة لا تكف الميديا عن ذكرها ولا تمل من تكرارها.

مثل مجدى يعقوب ومحمد صلاح مئات المئات من الحالات التى فرت من مصر بموهبتها إلى العالم الرحب حتى لا تسحق أو تدمر أو تنسف أو تفقد ما حبته به السماء من تفرد وتميز لتجد هناك ما يصقلها وينميها ويستفيد منها ويزهو بها.

لقد طاف أحمد فائق الدنيا شرقا وغربا ليقدم إلينا نماذج مصرية ناجحة فى برنامجه التليفزيونى المميز مصر تستطيع ليؤكد لنا أن حزب طرد المواهب فى بلادنا أكبر مما نتخيل، وجاءت مؤتمرات وزيرة الهجرة نبيلة مكرم التى تحمل اسم البرنامج نفسه لتدعم تلك الحقيقة.

ولكننا بقدر ما فرحنا بهم بقدر ما عجزنا عن الاستفادة منهم فقد كان كل همنا التقاط الصور التذكارية معهم بجانب شعور مؤقت بنشوة زائفة سببه أنهم ينتمون إلينا بالمولد ولو كانوا ينتمون بالإنجاز إلى غيرنا.

أن تكون موهوبا فى جنيف أو لكسومبورج أو شيكاغو أو نيودلهى أو كيب تاون لا يشكل حدثا غير اعتيادى.

أما أن تكون موهوبا هنا فظاهرة شاذة وعجيبة من عجائب الطبيعة تشبه ولادة طفل بثلاث أعين أو سمكة برأسين.

الموهبة على بساط جفاف الابتكار الذى نعانى منه تبدو وكأنها انقلاب أخضر لا تسمح بيروقراطية العطش بحدوثه أو كأنها جدول ماء لا تعطيه جمعيات أنصار الفشل تصريحا بالدخول.

ما الذى جرى لنا؟.. لم فقدنا قدرة الحكم على الأشخاص؟.. لم لا نرى فيهم سوى العيوب؟.. لم ندس البذرة قبل أن تصبح شجرة.. ونجفف القطرة قبل أن تصبح بحيرة.. ونشطب الكلمة قبل أن تصبح موسوعة؟.. ونقتل الموهبة قبل أن تكبر وتصبح مزرعة نجوم لامعة فى سماء موحشة مظلمة؟

كانت مصر تتبنى المواهب التى تلجأ إليها من خارجها طالبة شهادة اعتراف بها وسرعان ما تصبح خيطا فى نسيجها وحرفا فى أبجديتها ونخلة مثمرة على نيلها ولو فتشت فى أصول كثير من نجوم السينما والطرب والموسيقى ستجد عرقا أجنبيا تحت الجلد.

ولم تصنف مصر المواهب حسب ديانتها بل حسب براعتها ويكفى أن نتذكر فيلم غزل البنات الذى جمع فى مشاهد كثيرة بين ليلى مراد اليهودية ونجيب الريحانى المسيحى وأنور وجدى المسلم ولكن الأهم أن أحدا لم يتوقف من قبل للتفتيش عن عقائدهم.

ومن كثرة ما أخرجت مصر من روائيين وصحفيين وباحثين وشعراء سادت مقولة إن القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ.

ولكن ذلك كله أصبح فى ذمة التاريخ.

عشنا عصر الجياد المتنافسة فى جميع مجالات الحياة وعشنا عصر الجياد المنهكة التى لا تصلح إلا لجر عربات الكارو.

فى الطرب وجدنا فى وقت واحد أم كلثوم وعبدالحليم حافظ وفريد الأطرش وفايزة أحمد ووردة وصباح وشادية ولكن الآن لم يعد لدينا سوى شيرين عبدالوهاب التى لم نحتمل لها زلة لسان وحكمنا عليها بالسجن أو الهرب.

فى الصحافة وقف على نفس الخط مصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين وإحسان عبدالقدوس وفتحى غانم وصلاح حافظ وكامل زهيرى وحسن فؤاد وموسى صبرى ليتراجع العدد جيلاً بعد جيل حتى أصبح من الصعب حفظ الأسماء الجديدة.. إلا قليلا.

وفى الأدب لم ينفرد نجيب محفوظ بالقمة وحده وإنما شاركه فيها يوسف السباعى ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم وثروت أباظة وجاء بعدهم جيل بهاء طاهر وإبراهيم أصلان وجمال الغيطانى وخيرى شلبى وصنع الله إبراهيم ونوال السعداوى ويوسف القعيد ومرة أخرى انكمش العدد ولم يعد لدينا سوى اثنين أو ثلاثة ننفخ فى صورتهم حتى لا يكتئبوا أو يعتزلوا قبل أن يشتهروا.

وفى السينما وجدنا نور الشريف بجانب حسين فهمى ومحمود عبدالعزيز وعمر الشريف وأحمد رمزى وحسن يوسف وعادل إمام ويحيى الفخرانى وسمير صبرى لتجف جداول الماء واحدا بعد الآخر حتى دعونا الله أن يحفظ لنا محمد سعد ومحمد رمضان.

وفى إخراج الأفلام برز وقت واحد صلاح أبوسيف ويوسف شاهين وحسن الإمام ونيازى مصطفى وتوفيق صالح وفطين عبدالوهاب وهنرى بركات وكمال الشيخ وواصل وورث الموهبة جيل جديد جسده عاطف الطيب وشريف عرفة وخيرى بشارة ومحمد خان دافعوا عن لقب هوليوود الشرق قبل أن تصبح الآن هوليوود السبكى.

تعبت الجياد من إهمالها وتجاهل همومها وانسياب دموعها دون أن يعرف أحد معنى الركض على الزجاج المكسور أو يحصى عدد الشظايا التى دخلت فى لحمها قبل أن تصل إلينا أو تموت فى مكانها واقفة.

ولم نعد نكتفى بمحاصرة المواهب والتضييق عليها والتشهير بها وإنما رحنا نطاردها بلا رحمة بتهمة الخروج عن الآداب العامة مرة وبتهمة الإرهاب مرة وبتهمة الإلحاد ألف مرة وفتحت السجون لروائيين وشعراء وكتاب لم نقرأ أعمالهم بقدر ما تابعنا مصائرهم ولو كنا لم نعرف بعضهم إبداعيا فقد عرفناهم جنائيا.

لا يمكن لموهبة أن تضىء فى ليل مظلم حولها إذا أخذنا منها الشمع والكبريت وضربنا على أصابعها عقابا لها وإنذارا لغيرها.

ولو كان مجدى يعقوب قد تناسى ما جرى له وعاد إلى وطنه يخدم بموهبته أهله فإن محمد صلاح حقق بموهبته دعاية مجانية لبلده لم تكن لتقدر عليها أقوى شركات العلاقات العامة ولو دفعنا إليها ما تطلب من مليارات.

لكن لو كنا نحب مجدى يعقوب إلى هذا الحد فهل قدمنا إليه من القدرات والإمكانيات ما يجعل لمركزه الطبى فى أسوان شبيها فى مدن أخرى؟

ولو كنا نحب محمد صلاح بكل هذا الجنون والاهتمام، فهل فكرنا فى أن نتجنب الجريمة التى ارتكبناها فى حقه بألا نكررها مع مواهب أخرى فى مجالات مختلفة؟.

إن فى مصر بلا المئات من مجدى يعقوب ومحمد صلاح ومحمد العريان ونجيب محفوظ وعمر الشريف وأحمد زويل، ولكننا لا نريد أن نراها ولا نريد أن نسمعهم ولا نريد أن نكتشفهم فالمصابون بالزكام لا يقدرون على شم رائحة العطور.