د. محمود جلال يكتب: تمويل الابتكار وريادة الأعمال في مؤشر الابتكار العالمي (13)

مقالات الرأي


تميزت العقود الثلاثة الماضية بالزيادة المطردة في إيداعات براءات الاختراع والملكية الفكرية بشكل عام لدى مكاتب الملكية الفكرية في جميع أنحاء العالم، فضلًا عن التوسع في طرق استخدامها في الأعمال، والتحول نحو الاقتصادات القائمة على المعرفة، وهذا التطور أدى بشكل متزايد إلى أن يتم تحديد قيمة الشركات من خلال الأصول غير المادية، مثل المعرفة أو العلامات التجارية أو المهارات التكنولوجية.

فوفقًا لدراسة أجرتها Ocean Tomo (وهو بنك تجاري للملكية الفكرية بالولايات المتحدة) أن 84% من قيمة الشركات الممثلة في مؤشر الأسهم S&P 500 في عام 2015 كانت لأصول غير مادية (وهو مؤشر لسوق الأوراق المالية الذي يتتبع أداء أكبر 500 شركة مدرجة في بورصات الأوراق المالية في الولايات المتحدة)، بينما مثلت الأصول المادية فقط 16٪ من القيمة، في حين كان الوضع العكس تقريبًا في عام 1973 حيث كانت تمثل الأصول غير المادية 17٪ من القيمة بينما تمثل الأصول المادية 83٪.

وذلك نتاج الجهود الكبيرة المبذولة من الحكومات لديهم طوال هذه الفترة لتوعية الشركات بأهمية حماية أصولها غير المادية من الاستخدام غير المصرح به والنسخ غير القانوني من قبل المنافسين، ودعوتهم إلى استخدام حقوق الملكية الفكرية لتحقيق الحماية المعنية، إلى الحد الذي وصل فيه أن العديد من الشركات بدأت في فهم حقوق الملكية الفكرية كشكل من أشكال التأمين التي يجب أن تمتلكها الشركة، في حين أنه يمكن استخدام حقوق الملكية الفكرية بطرق مختلفة وأكثر استباقية، مثل أغراض التمويل وتوليد الدخل.

ومع ذلك هناك ترابط بين الحماية والتمويل، فنجد مثلا أن نظام البراءات مصمم لتعزيز الابتكار، حيث يوفر لمالك البراءة حق الاستغلال الحصري للاختراع وذلك لفترة زمنية محدودة، بحيث يمكن للمخترعين استرداد تكاليف البحوث والتطوير، من خلال استخدام براءات الاختراع والملكية الفكرية الأخرى لتوليد تدفقات دخل نقدي يمكنه المساعدة في تمويل المزيد من الأنشطة الابتكارية، الأمر الذي يحفز للمزيد من البحوث والتطوير، والذي لولاه ما كان للمخترعين أن يقوموا بمثل هذه البحوث والتطوير في غياب حماية براءات الاختراع، لأن المنافسين كانوا ببساطة سينسخون نتائج البحوث والتطوير دون أن يبذلوا الجهد في الاستثمار فيها. 

 

الجزء الثالث عشر: دور الملكية الفكرية في تأمين تمويل الابتكار بالشركات

 

تعتمد الشركات على مصادر مختلفة للتمويل سواء كانت ديونًا (debt) مثل القروض (loans)، أو كانت حصص ملكية (equity) مثل شراء المستثمرين لأسهم الشركة، أو أيضا منح (grants) للبحوث والتطوير، كما يمكن أن يكون لحقوق الملكية الفكرية وظيفة داعمة مهمة لزيادة قيمة التمويل وأيضا لتمويل الأنشطة الابتكارية كالتالي:

 

1. الملكية الفكرية وحصص الملكية في رأس مال الشركة (equity):

 

تزيد الملكية الفكرية من اهتمام المستثمرين ومن قيمة استثماراتهم، فنجد أن براءات الاختراع ذات أهمية خاصةٍ للشركات الناشئة التي تهدف إلى جذب رأس المال الاستثماري (VC)، حيث تمول شركات رأس المال المخاطر الشركات التي تتمتع بحماية لملكيتها الفكرية وذلك لضمان استثماراتها، فهناك علاقة إيجابية بين حماية الملكية الفكرية ورأس المال المخاطر، 

ففي دراسة أمريكية صدرت في عام 2019 بعنوان "هل للبراءات دور في تمويل الشركات المبتكرة الجديدة؟"، تشير أن أصحاب رؤوس الأموال المخاطر في الدول المتقدمة، مثل الولايات المتحدة أو كندا أو إسرائيل أو ألمانيا يفضلون تمويل الشركات التي لديها طلبات براءات اختراع سارية، والتي تعبر لهم عن جودة وأصالة اختراعات الشركة، وأنها الاكثر ملائمة في الاستثمار، وأيضا في بعض الأحيان يقوم المستثمرون المخاطرون بتمويل الشركات في البلدان النامية التي لديها نموذج أعمال جيد بل ويساعدون أيضًا في تمويل التكاليف المستمرة لتطبيق واستخدام حماية الملكية الفكرية المناسبة.

 

وتعتبر الملكية الفكرية هامة للشركات الناشئة التي تبحث عن مستثمرين للآتي:

- يمكن للشركة الناشئة التي تفتقر عادةً إلى حجم مبيعات كبيرة إثبات قيمة أفكارها من خلال اجتيازها معايير الأهلية للبراءة أثناء مرحلة الفحص الفني وحصولها على براءة الاختراع. 

- توفر براءات الاختراع الحماية لاختراعات الشركة الناشئة من النسخ من قبل الشركات الأخرى. 

- في حالة إفلاس الشركة الناشئة تظل براءات الاختراع قائمة ويمكن بيعها أو ترخيصها لكيانات أخرى، أي يمكن الحد من خسائر المستثمرين. 

- أن تكون براءات الاختراع "مجرد إشارة" لجذب انتباه المستثمرين، لتسهيل اكتشاف هذه الشركة الناشئة في السوق.

ولكن الأشكال المتعددة لحقوق الملكية الفكرية تختلف في مدى قدرتها على دعم عمليات التمويل حسب مجال الصناعة، فمثلا في مجالات علوم الحياة (مثل الطب والصيدلة) أو الصناعات عالية التكنولوجيا تعتبر براءات الاختراع العامل الرئيسي لإنشاء الأعمال والنمو وتحقيق الأرباح، بينما في الصناعات الأخرى، تلعب البراءات دورًا أقل، لكن الأشكال الأخرى للملكية الفكرية قد تكون مهمة مثل العلامات التجارية المسجلة. أيضا يمكن بناء نماذج أعمال كاملة ومربحة من خلال استغلال حقوق الملكية الفكرية، مثل حق الامتياز (Franchising).

 

2. استخدام حقوق الملكية الفكرية في تمويل الديون (debt financing): 

 

يمكن استخدام البراءات وغيرها من أشكال حقوق الملكية الفكرية كضمان للقروض، ولكنها أقل شيوعًا بكثير من الحالة السابقة لحصص الملكية، حيث تشير التقديرات بأن المقرضين المخاطرين (venture lenders) بما في ذلك بنك Silicon Valley الرائد والمقرضين غير البنكيين المتخصصين يقدمون قروضًا بما يقرب من 5 مليارات دولار أمريكي للشركات الناشئة سنويًا مقابل ضمانات مدعومة بالملكية الفكرية مثل براءات الاختراع.

فهناك الكثير من التحديات التي تجعل سوق التمويل  لاتزال صغيرة، الأمر الذي دفع بعض الحكومات إلى التدخل وتعزيز أسواق تمويل الديون المدعومة بالملكية الفكرية، كما في الصين، على سبيل المثال، التي تدير برامج حكومية تعزز استخدام حقوق الملكية الفكرية كضمان من خلال تقديم إعانات على الفائدة (interest subsidies - أي تقوم الحكومة بسداد الفوائد على هذه القروض بصورة مباشرة أو غير مباشرة)، وتقديم اعتماد مالي للبنوك مخصص لهذه القروض، وكذلك تقديم إرشادات وأدوات تقييم لتقليل مخاطر الإقراض، فنجد أثر هذه الجهود أنه بين 2018 وسبتمبر 2019 وصل المبلغ الإجمالي للقروض المضمونة ببراءات الاختراع إلى أكثر من 4 مليارات دولار أمريكي في مقاطعة غوانغدونغ الصينية وحدها، وأن آلاف الشركات قد استفادت من هذه المخططات. 

وتشمل الأمثلة الأخرى كوريا، حيث قدم بنك التنمية الكوري 100 مليون دولار أمريكي إلى 80 شركة من الشركات الغنية بالملكية الفكرية في شكل قروض مضمونة بالملكية الفكرية، وبرنامج خطة تمويل الملكية الفكرية في ماليزيا بما قيمته 47.5 مليون دولار أمريكي يُقدم من خلال شركة Debt Ventures Bhd الماليزية لدعم استخدام الملكية الفكرية كضمان.

 

3. الملكية الفكرية ضمن منح البحوث والتطوير:

 

منح البحوث والتطوير التي تقدمها الحكومات تعتبر صورة من صور التمويل من خلال حقوق الملكية الفكرية، حيث تتطلب العديد من البرامج الحكومية لدعم البحوث والتطوير القيام بتسجيل براءات الاختراع وغيرها من أشكال الملكية الفكرية كنتيجة لمشاريع البحوث والتطوير، حيث ترغب الحكومات في تعزيز البحوث التي تؤدي إلى التسويق التجاري الناجح في السوق للمنتجات والخدمات القائمة على حقوق الملكية الفكرية، ولكن يعيب ذلك الاعتقاد أن تقديم طلب للحصول على براءة الاختراع هو نهاية الطريق ولكن هناك حاجة إلى متابعة كبيرة من البحوث والتطوير للوصول إلى مرحلة النموذج الأولي وأيضًا تجاوزها للوصول إلى الشكل التجاري القابل للتسويق.

ففي جمهورية التشيك عام 2010 قدم نظام تمويل الأبحاث القائم على الأداء نقاطًا لأي براءات اختراع أو نماذج منفعة تم إيداعها خلال المشاريع البحثية وتم توفير التمويل طبقا للنقاط التي تم الحصول عليها. وقد أدى ذلك لقيام المبتكرين التشيكيين بتسجيل أكبر عدد ممكن من نماذج المنفعة للحصول على أكبر قدر من التمويل، وقد أدى ذلك إلى انتشار إيداعات نماذج المنفعة والتي لم يتم فحصها بشكل موضوعي لمعرفة ما إذا كانت المطالبات المقدمة تستحق حماية الملكية الفكرية، 

كما لم يهتم النظام الوطني الذي تم من خلاله تخصيص تمويل للبحوث والتطوير بما إذا كانت نماذج المنفعة المسجلة والاختراعات التي تقف وراءها لها أي آفاق تجارية معقولة، مما أدى إلى زيادة تكاليف نظام الابتكار التشيكي دون تحقيق المزيد من الابتكارات التي تدخل السوق. وقد تم إصلاح هذا النظام منذ ذلك الحين بالاستفادة من الدرس الذي مفاده أنه يجب أن تتضمن مقاييس الأداء عند ممولي الأبحاث لمخرجات الملكية الفكرية تقييمًا للقيمة التجارية المحتملة وتوقعات السوق.

كما نجد أن بعض المنح المقدمة تكون قائمة على البحوث التشاركية بين الدول أو ما يسمى بالابتكار المفتوح كالمقدمة من الاتحاد الأوروبي مثل برنامج Horizon-Europe وذلك لدعم الأمور التي لا يمكن التعامل معها بشكل جيد على المستوى الوطني البحت والتي تتطلب من الأطراف من مختلف البلدان العمل كفريق واحد على مشاريع بحثية مشتركة، ومن فوائد هذه المنح تمويل حقوق الملكية الفكرية، والتعاون بين المنظمات لتحفيز تطوير الابتكارات، والتعلم والوصول إلى المعرفة تشاركيًا، بالإضافة إلى نقل المعرفة والتكنولوجيا بين شركاء الاتحاد وإنشاء شبكات الاتصال والتعاون.

الأمر الذي يستلزم أن تتضمن العقود التي تحكم اتفاقيات الاتحاد تعريفًا للمشاركين بالأدوار المختلفة لهم (المساهمة في المشروع)، ونوع المعرفة الفنية الحالية والملكية الفكرية المسموح باستخدامها ومشاركتها مع الشركاء المختلفين وكيفية تقاسم نتائج البحوث المطورة بشكل مشترك، بما في ذلك، على سبيل المثال، براءات الاختراع التي سيتم تقاسمها بين الشركاء، الأمر الذي يستلزم المعرفة بالملكية الفكرية ومهارات إدارتها في العقود التشاركية، حيث لا تتطلب إدارة الملكية الفكرية إيداع الملكية الفكرية فحسب، بل تتطلب أيضًا مهارات التفكير الاستراتيجي والتفاوض لتحقيق أقصى منفعة من هذا العمل التشاركي.

 

وللحديث بقية،