أحمد ياسر يكتب: غزة من الأزمة إلى مأزق استراتيجي معقد

مقالات الرأي

أحمد ياسر
أحمد ياسر

لقد تطور الوضع في غزة إلى تحدي متعدد الأوجه يستعصي على الحل السهل،لقد أدى التدخل الخارجي، وغياب التعاون الإقليمي، والنزاعات السياسية الشديدة بين أصحاب المصلحة الدوليين إلى تعزيز حالة "الجمود السياسي" داخل المجتمع الدولي ونتيجة لذلك، تكافح آليات الأمن الدولية من أجل التوصل إلى وقف إطلاق نار حقيقي يعالج الشواغل الإنسانية بشكل مناسب.

ورغم أن الأحداث التي وقعت داخل مجلس الأمن ربما لم تكن مفاجأة للمراقبين، فإنها تسلط الضوء على الفوضى السائدة في عالم اليوم، وتكشف عن مشهد عالمي يخلو من القيادة الفعّالة، تحمل هذه المرونة داخل النظام الدولي عواقب وخيمة، ومن المحتمل أن تشكل النظام الدولي المستقبلي وأدوار اللاعبين العالميين المؤثرين الناشئين.

إن منطقتنا العربية تشهد حاليًا عملية يمكن أن نطلق عليها "إعادة الهيكلة الإقليمية". يمثل هذا المفهوم إطارًا تحليليًا جديدًا لفهم الديناميكيات الإقليمية، مع التركيز على صراع إقليمي طويل الأمد لا يحركه الانتصارات العسكرية فحسب، بل أيضًا الرغبة في إعادة تشكيل الأعراف السياسية السائدة وإنشاء حدود جيوسياسية جديدة.

 وتشارك ثلاث فئات متميزة من الجهات الفاعلة - الكيانات غير الحكومية، والقوى الإقليمية، واللاعبين من خارج المنطقة - في هذه العملية، التي غالبًا ما تتميز بالسلوك المتطرف الذي تبديه بعض الأطراف المعنية.

التطورات الجارية في الولايات المتحدة

تعكس التطورات الأخيرة في الولايات المتحدة تغيرًا في المشاعر فيما يتعلق بالصراع الدائر في غزة، وتكشف استطلاعات الرأي أن أغلبية كبيرة تبلغ 65% من الأميركيين لا تؤيد الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة، انخفضت معدلات تأييد الرئيس بايدن إلى أدنى مستوياتها، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى دعمه الثابت لرئيس الوزراء نتنياهو.

ومن الجدير بالذكر أن تغيرات كبيرة ظهرت داخل الحزب الديمقراطي، حيث تشير البيانات إلى أن 85% من الديمقراطيين لا يوافقون على الصراع في غزة، والدليل الآخر على هذا الشعور هو الرسالة المفتوحة التي صاغها 24 ممثلًا، والتي حثت الرئيس بايدن على وقف الأعمال العدائية، مستشهدين بالضرر الذي لحق بالمصالح الأمريكية والسمعة العالمية للبلاد.

كما اكتسبت حركة شبابية مزدهرة معارضة للحرب مكانة بارزة، حيث يتلقى 400 شاب تدريبًا حاليًا في البيت الأبيض، حيث يتم تعيينهم باعتبارهم "قادة المستقبل" للولايات المتحدة، وقد أدانوا جهارا الإجراءات الإسرائيلية ضد الأطفال في غزة ودعوا الرئيس إلى إعادة النظر في دعمه لإسرائيل.

أحد أهم التطورات هو تعليق مجلس الشيوخ لمساعدات بقيمة 14.2 مليار دولار لإسرائيل، تحمل هذه الخطوة وزنًا كبيرًا، نظرًا لأن إسرائيل كانت تاريخيًا أكبر متلقٍ للمساعدات الخارجية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، وتشير الوثائق الرسمية إلى أن إجمالي المساعدات المقدمة لإسرائيل منذ عام 1946 وحتى عام 2023 بلغت نحو 158.6 مليار دولار.

وعلى الرغم من الدعم الأمريكي الطويل الأمد لإسرائيل في حملتها المستمرة في غزة، فإن التحولات في الموقف الأمريكي أصبحت واضحة، مدفوعة بالحاجة الملحة إلى إنهاء الحرب، يجلب اقتراب العام الجديد أهمية متزايدة للإدارة الأمريكية، لأنه يحدد الرئيس المقبل للولايات المتحدة، ويحرص الرئيس بايدن على تجنب احتفالات رأس السنة التي يطغى عليها الصراع في غزة واحتمال التصعيد الإقليمي.

كان الضوء الأخضر الذي قدمته الولايات المتحدة لنتنياهو مشروطًا بالتوقيت وليس بمدى الدمار أو شدة الضرر المحتمل للمدنيين في غزة، يواجه الرئيس جو بايدن الآن معضلة حقيقية في نهجه تجاه الحرب بين إسرائيل وغزة.

 فالسماح باستمرار الصراع قد يعرض فرصه في الحصول على فترة ولاية ثانية للخطر، في حين أن الضغط على إسرائيل لوقف الأعمال العدائية قد يعيق قدرته على إكمال فترة ولايته الحالية، لا سيما في ضوء اعتماد نتنياهو على اللوبي الصهيوني المؤثر داخل الولايات المتحدة.

من المهم أن نتذكر أنه تاريخيًا، كان الحزب الديمقراطي أكثر ميلًا نحو الدعوة إلى حل الدولتين، ومع ذلك، فقد اصطدمت جهودهم في كثير من الأحيان بالعناد الإسرائيلي، مما قد يؤدي إلى تقويض اتجاهات السياسة الأمريكية هذه.

وقد ظهر مثال مهم على هذا الصدام خلال فترة ولاية الرئيس بيل كلينتون عندما حاول الضغط على إسرائيل لتبني حل الدولتين، وعمل اللوبي الصهيوني على توريطه في فضيحة مونيكا لوينسكي، مما أدى إلى تحويل الاهتمام العالمي عن إرثه السياسي إلى تلك الحادثة المشينة.

وفي عام 2009، عندما سعى الرئيس أوباما إلى إعطاء الأولوية للمصالح الأمريكية من خلال نهج سياسي متوازن، واجه انتقادات كبيرة من مؤيدي إسرائيل داخل الولايات المتحدة، وعلى الرغم من زيادة المساعدات الأمريكية لإسرائيل من 3.1 مليار دولار إلى 3.8 مليار دولار خلال فترة رئاسته، إلا أنه واجه توبيخًا ملحوظًا من رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بنيامين نتنياهو.

وقد استبعدت زيارة نتنياهو إلى الولايات المتحدة عام 2015، بدعوة من مجلس النواب الأمريكي، وبشكل خاص عقد لقاء مع الرئيس أوباما.

واليوم، يواجه الرئيس بايدن عملية توازن دقيقة، إن دعم إسرائيل يفرض تحدياته، في حين أن التخلي عنه سيؤدي بلا شك إلى كارثة، وقد دفعت هذه الديناميكيات المعقدة الرئيس بايدن، إلى تبني موقف دبلوماسي أكثر حزمًا تجاه إسرائيل، لقد رفض ظاهريا فكرة تهجير الفلسطينيين، وهي الخطة التي كانت إسرائيل تتطلع إلى تنفيذها.

مأزق الصراع في غزة

في المشهد الجيوسياسي المعاصر، لم تعد التحولات في المواقف الجيوسياسية تتوقف فقط على التغييرات في الحدود، كما كان يُنظر إليه تقليديًا من خلال صعود الدول أو تفككها، وبدلا من ذلك، فإنها تتأثر ببلورة أحداث معينة، خاصة عندما تكون مفاجئة وجوهرية وغير متوقعة، وهذا ينطبق، إلى حد كبير، على عملية طوفان الأقصى.

لقد نجح حجم العملية ووحشيتها في إثارة غضب إسرائيل، مما أدى إلى تحطيم شعورها بالرضا عن النفس، وردًا على ذلك، قررت إسرائيل استعادة مصداقيتها المفقودة في مجال الردع، وذلك باستخدام جميع الوسائل المتاحة، بغض النظر عن التكاليف المرتبطة بها.

وقد أدى رفع المطالب الإسرائيلية في بداية الصراع، إلى جانب فشلها في تحقيق هذه الأهداف، إلى تفاقم الوضع من تعقيده، وهذا جعل من المستحيل تقريبًا على نتنياهو أن يفكر في إنهاء الحرب، وهو ما يعني نهاية مسيرته السياسية، وربما حتى رفاهيته الشخصية، نظرًا لميله إلى اتباع تدابير يائسة عندما يُحاصر.

ويمثل اتساع نطاق الصراع، ولا سيما تصرفات الجيش اليمني، تطورًا هامًا ومحفوفًا بالمخاطر، لقد أثارت ناقوس الخطر ودفعت دول العالم إلى التفكير في التدخل لوقف الحرب التي تشكل الآن تهديدًا لطرق التجارة الدولية.

تاريخيًا، كانت الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط تدور حول ثلاثة أهداف رئيسية: تأمين الوصول إلى النفط، وضمان أمن إسرائيل، وحماية طرق التجارة العالمية. 

وفي الوقت الحاضر، يتعرض أمن إسرائيل لتهديد خطير، إلى جانب الممرات البحرية، مما يعرض تدفق النفط إلى أوروبا للخطر، وبالتالي يقوض الاستراتيجية الأمريكية على جبهات متعددة.

إن الطريق الوحيد أمام نتنياهو للمضي قدمًا يتلخص في توسيع الصراع بنجاح من خلال إشراك حزب الله في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، وتحويل ساحة المعركة فعليًا إلى سوريا، ولا يزال حزب الله يحتفظ بالقدرة على إملاء قواعد الاشتباك، مدركًا أن هذه القواعد يتم تحديدها من خلال الظروف على الأرض بدلًا من المعايير المحددة مسبقًا.

ومن هنا، واستجابة لرغبة روسيا وإيران وسوريا في منع نتنياهو من تصعيد الصراع واستدراج الولايات المتحدة، يصبح العمل على مبدأ "تحقيق الردع دون البدء به" أمرًا بالغ الأهمية.

وبدلًا من ذلك، قد يسعى نتنياهو إلى توريط الولايات المتحدة بشكل مباشر في الصراع من خلال شن هجوم مباشر على القوات الأمريكية في المنطقة ونسبه إلى الطرف المعارض، على غرار حادثة عام 1967 عندما هاجمت إسرائيل المدمرة الأمريكية يو إس إس ليبرتي، مما أدى إلى مقتل 34 شخصًا. قتيل و171 إصابة.

ومن الجدير بالذكر أن فكرة الحرب الكبرى هي فقط طموح نتنياهو، وملاذه الوحيد هو المضي قدمًا، بغض النظر عن العواقب، وفي الوقت الحالي، يبدو أنه لا توجد قوة قادرة على كبح جماحه، حتى لو كان الرئيس الأمريكي يميل إلى ذلك، نظرًا للدعم شبه الثابت لإسرائيل في مستويات صنع القرار السياسي الأمريكي.

ولعل الحل النهائي يكمن في شكل وطبيعة الترتيبات الأمنية المقبلة في غزة، والتي تعكس وتعزز إرادة المنتصر على الأرض.