عادل حمودة يكتب: عواصف النار تهب على مصر «٢»

مقالات الرأي

عادل حمودة
عادل حمودة

حديث الأزمة الاقتصادية بصراحة

نعم الحرب فى أوكرانيا وغزة والبحر الأحمر سبب ولكن أخطاء الحكومة سبب آخر

رجال الأعمال تصرفوا بغطرسة فكان اللجوء إلى القوات المسلحة ضرورة وحان الوقت لتراجعها

سنة ٢٠٢٤ فيها أكبر سداد لخدمة الدين وأقل إيرادات فى العملة الصعبة

كشفت أخطاء السياسة الاقتصادية المعتمدة على النقود الساخنة فى سنوات كورونا ثم راحت الدوائر تدور

كان على وزير المالية أن يسدد القروض بمزيد من القروض وهكذا دخلنا دائرة جهنمية

أنا جزء من الوجع العام.

أسبح فى بحر من الأسئلة الصعبة.

أبحث عن إجابات حقيقية عنها حتى لو لم ترض أحدًا.

ليس هناك أوامر خارجية انصاع إليها عندما أكتب.

أيضا لن أجامل الشارع العام رغم أن القلق العام جزء من قلقى والحلم العام جزء من حلمي.

إن الشارع العام ليس نصا مقدسا يجب تقديم القرابين إليه وإنما بشر لهم قدرة على التمييز.

لنبدأ من أول السطر.

هل نحن نعيش فى أزمة اقتصادية؟

«نعم».

هل سنعانى منها أكثر؟

«نعم».

هل سنتجاوزها؟

«نعم ولكن ليس فى المدى القصير».

كيف انفجرت هذه الأزمة فجأة ثم راحت تتزايد يوما بعد يوم؟

هنا يجب الاعتراف بوجود أخطاء داخلية إلى جانب أحداث عالمية وإقليمية.

يوم السبت ١٦ ديسمبر أسقطت الدفاعات المصرية طائرة مسيرة بالقرب من مدينة «دهب» على الساحل الشرقى لسيناء.

بعد عشرة أيام تكرر الحادث مسببا دوى انفجار مثير للرعب.

لم يكتف الحوثيون فى اليمن بإطلاق المسيرات لتنفجر فى مدينة «إيلات» جنوب إسرائيل وإنما ألحقت بها صواريخ بالستية هددت مدنا مصرية مجاورة.

أراد الحوثيون دعم الفلسطينيين ــ فى الحرب المدمرة التى تشنها إسرائيل عليهم فى غزة ــ لكنهم دون عقل منهم وصلت مسيراتهم وصواريخهم إلينا ولم تصل إلى العدو الذى يقصدونه فى حالة من حالات الحول العسكري.

حول عسكرى سببه تأثير «القات السياسي» دفعنا ثمنه بالعملة الصعبة التى نعانى من نقصها.

توقعنا ارتفاع عوائد السياحية فى جنوب سيناء إلى ١٠ مليارات دولار لكن بعد الضربات الحوثية انخفضت العوائد عن أربعة مليارات كانت تحققها.

فر السياح خوفا على حياتهم بعد أن فرضت الحرب على دهب وشرم الشيخ ونبق وسانت كاترين ورأس سدر وأغلقت عشرات الفنادق والمنتجعات أبوابها وسرحت مئات المئات من موظفيها وعمالها.

لم يكتف الحوثيون بذلك وإنما أضروا الاقتصاد القومى بحالة تشنج أخرى.

فرضوا وجودهم على باب المندب لمنع السفن الإسرائيلية من العبور فى البحر الأحمر تضامنا مع الفلسطينيين فى غزة ثم سخنت رءوسهم أكثر فمنعوا مرور السفن المتجهة إلى إسرائيل.

لكنهم وهم يساندون شعبا عربيا أضروا شعبا عربيا آخر.

أضروا بالشعب المصرى الذى يساند الفلسطينيين مساندة حقيقية وليست مساندة دعائية ويكفى القول إن ثمانين فى المائة من المساعدات التى تصل إلى غزة تبرع بثمنها المصريون رغم معاناتهم الصعبة.

ولن تصدق أن الحوثيين لا يعرفون بدقة السفن التى عليهم استهدافها وهم يسألون أكثر من دولة إقليمية تحديدها.

لكن النتيجة أن الملاحة فى البحر الأحمر تضررت وتراجعت معها إيرادات قناة السويس التى يمر منها نحو عشرة فى المائة من التجارة الدولية.

غيرت أكبر ١٨ شركة شحن فى العالم مسارها وعادت لطريق رأس الرجاء الصالح مما ضاعف من تكلفة البضائع التى تحملها وساهم ذلك فى رفع أسعار السلع التى نستوردها ونستهلكها.

فى الوقت نفسه انخفضت إيرادات القناة التى توقعنا أن تصل إلى عشرة مليارات دولار فى سنوات قليلة قادمة.

وجنت المنطقة بالضربة الأمريكية البريطانية لقواعد حوثية فى أكثر من مدينة يمنية.

أرادت الغطرسة الأنجلو أمريكية بغارات شكلية عشوائية أن تثبت سيطرتها ولكنها لم تطفئ النار وإنما ضاعفت من اشتعالها.

سيطرت عليها سياسة البلدوزر فلم تختلف كثيرا عن خصمها.

لكن الحوثيين رغم كل ما فعلوه لم يزد دورهم فى الحرب عن دور الكومبارس.

لقد وصلت إلينا رائحة البارود والموت الجماعى فى غزة عبر الحدود معها.

ولا يمكن أن ندعى مهما بلغ بنا التفاؤل أن هذه الرائحة رائحة عطر «شانيل» أو «نينا ريتشى» أو «جيرلان» وإلا كنا كذابين ومزورين وبائعى أوهام.

وبدا واضحا أن الهدف الإسرائيلى المعلن أحيانا والخفى دائما هو تهجير الفلسطينيين إلى سيناء.

غارات مدمرة فى شمال غزة أجبرت السكان على الرحيل إلى جنوب القطاع ثم غارات فى الجنوب تدفع بهم إلى عبور الحدود طلبا للحياة مهما كانت قدرتهم على التحمل والصمود.

بل المؤكد أنه من وقت إلى آخر تنصب مجموعة فلسطينية خياما على الحدود تعيدهم السلطات المصرية بالتفاهم.

وشيدت مصر معسكرا فى «خان يونس» (١٠٥٠ خيمة) وفرت فيه سبل المعيشة حتى يبقى الفلسطينيون هناك وأدخلت ٧٠٠٠ خيمة لتشييد معسكرات أخرى.

وزودت مصر الفلسطينيين هناك بالوقود والمياه والدواء والخبز الجاهز بعد أن كانت ترسل إليهم الدقيق لتوفير الوقت والجهد.

هذه أعباء إضافية لا مفر من تحملها مساندة لشعب عربى وحماية لأمننا القومي.

ويزيد من هذه الأعباء أن الجيش المصرى يراقب الحدود ٢٤ ساعة فى اليوم خاصة بعد أن وصل عدد سكان رفح الفلسطينية إلى ٨٠٠ ألف نسمة وكانوا فى العادة لا يزيدون عن ٣٠٠ ألف نسمة.

لكن فى حالة الجنون التى أصابت رئيس الحكومة الإسرائيلية «بنيامين نتانياهو» اقترب من حالة الهوس التى أصابت الإمبراطور الرومانى «نيرون» أو «نيرو» فأحرق روما عاصمة بلاده.

هدد «بيبى» بنزول جوى على ممر فيلادلفيا الفاصل بين الحدود المصرية والحدود الفلسطينية بحجة وجود أنفاق يستعملها قادة المقاومة.

بدا أنه يريد توسيع الحرب لتقف الدنيا على أطراف أصابعها وتتدخل لإنقاذه من الفشل الذى أصابه والسجن الذى فى انتظاره.

هنا بدأ الجيش المصرى فى الاستعداد وهو أمر طبيعى ومتوقع حتى لو لم يعلن ذلك وحتى لو واصل التخفيف من التوتر بالطرق الدبلوماسية.

والمؤكد أن الجيش المصرى مستعد تدريبا وتسليحا ولكن هناك ما لا يقل أهمية عن التدريب والتسليح هناك الاحتياجات اللوجستية (الوقود والطعام والدواء) الضرورية والمكلفة والتى بدونها يصعب الانتصار فى الحرب.

سمعت من أحد الخبراء أن الأكاديميات العسكرية المصرية أن القائد الألمانى «إرفين روميل» كان أكثر خبرة عسكرية من منافسه البريطانى «برنار مونتجومري» الذى هزمه بسبب حرصه على توفير مستلزمات البقاء لجنوده أكثر منه مدركا أن «الجيوش» تزحف على بطنها.

إن وجود مصر فى مسرح العمليات ربما يفرض عليها أن تكون جزءا من عواصف النار.

المؤكد أن الحرب على غزة كلفت وتكلف مصر الكثير وتزيد من أزمتها الاقتصادية مثلما حدث من قبل بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا وسبقتها آثار وباء «كورونا».

هذا صحيح تماما.

فنحن نستورد غالبية السلع الأساسية وغالبية مدخلات الصناعة من الخارج بالعملة الصعبة وما يحدث فى العالم من أحداث يؤثر فى سلاسل الغذاء وأسعار الطاقة والخامات ويرفع تكاليف الشحن وقيمة التأمين على النقل البحري.

مرة أخرى هذا صحيح تماما.

لكن العامل الخارجى فى الأزمة ليس وحده من صنعها وأثر فيها.

لا بد من الاعتراف بأن السياسة النقدية فى توفير العملات الصعبة بواسطة النقود الساخنة (الهوت موني) كانت خطأ لا يجرؤ من ارتكبه على إنكاره.

إن النقود الساخنة نقود مغامرين يبحثون عن اقتناص فوائد عالية وعاجلة على أموالهم ثم عند أول بادرة مثيرة للقلق يحملونها ويفرون.

حدث ذلك فى سنتى كورونا حيث أجبرت الحكومة المصرية على سداد نحو ١٥ مليار دولار لمغامرى «الهوت مونى» فى أيام معدودة حفاظا على سمعتها فى السداد وكان على وزير المالية ــ حسب ما أعلن بنفسه ــ أن يسدد القروض بمزيد من القروض وهكذا دخلنا فى حلقة مفقودة ودائرة جهنمية.

والحقيقة أنه منذ ذلك الوقت وحتى اليوم لم نعرف من الذى يضع السياسية الاقتصادية؟ ثم هل لدينا مجموعة اقتصادية متجانسة أم متضاربة؟

وبدا واضحا لكل من يملك عينين أن محافظ البنك المركزى السابق كان الأكثر تأثيرًا فى السياسة الاقتصادية وتفرغ لتصفية منافسيه على مكانه وعندما عجز عن تحقيق نجاح يذكر ترك السفينة لمصيرها ولم نفكر فى أن نحاسبه وهو يستمتع بما كسب بل إن هناك من يرفض انتقاده.

وربما كان السؤال الملح الذى يمكن وضعه بسؤال المليون: لم لا يكون فى الحكومة وزيرًا للاقتصاد؟

وهناك بالقطع عنصر آخر تسبب فى الأزمة.

إن السياسات الداخلية لها بالقطع آثار جانبية حتى لو بدت إيجابية.

بالقطع أنا مع مجانية التعليم العام والجامعى حتى نضمن حراكا اجتماعيا شريفا ولكن عند وضع قيود على سوء استغلالها أضر بها.

وكان الإصلاح الزراعى تعويضا للسواد الأعظم من الفلاحين عما عانوه من ظلم وقهر ولكن عدم تلافى آثار تفتيت الملكية أفقده فرص الزراعة الجماعية.

وبالقطع كان الانفتاح الاقتصادى بعد حرب أكتوبر فرصة لتحقيق تنمية استثمارية تزيد من فرص الصناعة وتقلل من معدل البطالة ولكنه تحول إلى توكيلات تجارية راحت تستورد كل ما يصادفها حتى هددت الصناعة المصرية وأغلقت الكثير من مصانعها وشردت الملايين من عمالها.

وطوال سنوات طوال قبل ثورة ٢٥ يناير جمدت مصر فى مكانها.

نافقت السلطة القائمة الشعب بتأجيل الإصلاح الاقتصادى عقودا متجاهلة حقيقة فرضت نفسها فيما بعد هى أن الانفجار سيأتى بقوة الكبت الذى بقى عليه فى القمقم.

كان علينا أن ندفع فاتورة تأجيل ٣٠ عاما مرة واحدة بفوائدها ولو كنا قد دفعناها فى موعدها عاما بعد عام لما انفجرت الكارثة مثل قنبلة نووية.

وجاءت جمهورية ما بعد ثورة ٣٠ يونيو وهى تحلم بتغيير يقترب من حد المعجزة.

لكنها فوجئت بإرهاب يكلفها المليارات ويفرض علينا كابوسا فى عز النهار.

فى الوقت نفسه كان عليها تعويض سكان العشوائيات عن الحياة المؤلمة غير الآدمية التى عاشوها تطوير البنية الأساسية لجذب الاستثمارات الخاصة.

ولكن لنتذكر أن رجال الأعمال الكبار فى مصر خذلوا قيادة البلاد خلال ستة اجتماعات معهم تصرفوا فيها بأسلوب متعال يصعب قبوله ولم يفكروا فى مساندة البلاد فى وقت حرج تمر به ونسوا أن المليارات التى جمعوها كانت من جيوب المصريين ولم يكن أغلبها خاليا من فساد لا يمكن إنكاره.

وهكذا انسحب غالبية رجال الأعمال من المشهد وكأنهم تمنوا الفشل أو كأنهم انتظروا فرصا للكسب الحرام كما تعودوا من قبل.

وهكذا جرى الرهان على القوات المسلحة.

لم يكن جديدا دخول الجيش فى الاقتصاد لكن الظروف فرضت عليه الدخول فى المزيد من المجالات وإن كان الوقت قد حان ليخرج تدريجيا من الاقتصاد لعل القطاع الخاص يسترد دوره ويعيد أمواله التى هربها للخارج إلى مصر متوسعا فى استثماراته.

ولا جدال أن الإنفاق العام المتزايد تسبب فى مزيد من التضخم ولكن أحلام التغيير العريضة دفعت بنا إلى مواجهة تحديات صعبة وبدورها فرضت التحديات الصعبة أخطاء صعبة.

لكن الشاهد أن المشروعات القومية جذبت استثمارا إلى جانبها وعظمت قيمة الأرض التى شيدت عليها.

مدينة الجلالة عمرت العين السخنة حتى الزعفرانة.

البنية التحتية فى الساحل الشمالى أغرت أكبر ثلاث شركات عقارية مصرية وعربية لخلق مدينة متكاملة فى منطقة «رأس الحكمة».

وهناك بالقطع أمثلة أخرى.

لكن ذلك لا يجعلنا ننكر أننا فى أزمة.

ونحمد الله أن الحكومة اعترفت بها بعد طول إنكار.

والاعتراف بالمشكلة بداية الطريق إلى حلها.

ومن سوء الحظ أن المشكلة تحتاج إلى براعة فى التعامل معها خلال العام الجارى (٢٠٢٤) حيث يفرض علينا سداد أعلى خدمة دين وشاءت ظروف الحرب على غزة وتداعياتها فى البحر الأحمر تحقيق إيرادات أقل من السياحة والقناة وتحويلات المصريين العاملين فى الخارج.

لكن ذلك لا يعنى أن علينا أن نكتفى بالشكوى ونجرأ بالصراخ وإنما علينا البحث عن أطواق نجاة.

ترى كيف نحصل عليها؟

كيف نوفرها؟

هل نتحمل مواجهة الأمواج ونحن على متنها؟

لكن هذه قصة أخرى.