د. رشا سمير تكتب: رحلتي الروائية مع "الحشاشين" في حدائق أصفهان

مقالات الرأي

بوابة الفجر

"سألقاكِ هُناك" قصة جمعت بين حسن الصباح والثورة الإيرانية في رواية تاريخية إنسانية

يحيى ونيلوفر يلتقيان رغم ثماني قرون من الفارق الزمني بينهما

بدأت فكرة الرواية بحُلم ما دام راودني وأنا أقرأ عن هذا المكان الساحر الذي روت لي أمي عنه الكثير في ليالٍ هدهدتني بين ذراعيها لأستمع وهي تحكي.. فباتت الصورة في مُخيلتي هي رائحة الأماكن ومذاق الأشياء التي رسمها صوتها العذب حروفا وكلمات.. 

تخيلت نفسي أرتحل هائمة على وجهي بين حدائق الزهور وأعتلي قمم الجبال في أصفهان..

أقطن منطقة كلاردشت في مازندران..وأستحم في بحيرة مارلو أحد فروع نهر رودخانة خشك..ثم أودع آخر شمس في عيد النوروز إحتفالا بقدوم الربيع..وأجلس لتناول الطعام على "سُفره هفت سين" التي تجمع سبعة أشياء تبدأ بحرف السين. 

تحولت الأحلام مع الوقت إلى حقيقة..حين قررت أن أصطحب قلمي في رحلة طويلة مع (نيلوفر) و(يحيى)..رحلة أحداث تتقاطع ومصائر تتشابك من القرن الثاني عشر وحتى القرن العشرين..

أعود اليوم بخيالي لأتذكر كيف بدأت تلك الرحلة؟ ومتى قررت أن أكتب عنها؟

قلعة آلموت وحسن الصباح:

أشعل الرجل غليونه ونفث دخانه وهو يحدق في السماء، ثم قال بهدوء شديد:

" إن آلموت يا صغيري ليست إلا حصنا منيعا مقاما على قمة صخرية عالية..تلك القلعة بناها أحد ملوك الديلم القدامى، فبينما كان خارجا للصيد ذات يوم أطلق نسرا قويا مدربا على التحليق في الفضاء، فإذا به يعتلي صخرة، فأدرك الملك أهمية وقيمة الموقع الإستراتيجية وتبع قلبه..فقرر أن يبني فوقه قلعة وأسماها آلوه موت (عُش النسر)..ومع الوقت اختصر الإسم إلى آلموت"

تلك الكلمات جاءت على لسان الشيخ الذي إصطحب يحيى بطل رواية (سألقاكِ هناك) أول مرة إلى قلعة آلموت..إلى حيث أرسله أباه ليلقى مصيرا لم يختاره إلا أننا نكتشف مع مرور الوقت أن رحلته كانت رحلة إرادية ذهب فيها باحثا عن حبيبته (فرح ناز)..

أصابني الغموض الذي يلف قصة حسن الصباح شيخ الحشاشين ومؤسس الجماعة التي أرعبت العالم لسنوات بشئ من الفضول، الفضول لأعرف وأتعمق أكثر وأقرأ عن تفاصيل وملامح هذا الرجل الغامض، تجولت بين أشهر الكتب التي تناولت سيرته..فكانت تلك المراجع التي أنحني لكل من كتبها إحتراما..فمن سبقونا وكتبوا، لهم دون شك كل الفضل ليصبح ذكرهم واجبا وليس تفضلا..

تعودت في رواياتي أن أذكر كل المراجع ومؤلفيها على الرغم من أن البعض لا يحبذ ذكر المراجع في الروايات إلا أنني أرى أنه واجب علينا في زمان أصبح إلتقاط الأفكار والمشاهد والإقتباس حق مباح لكل من يمسك بقلم فارغ وكأن السطو على الأفكار أصبح مُباحا في زمان بلا قيم!.

كُتب الكثير عن فترة الحشاشين أهمها: 

إبن سينا "جيلبرت سينويه"

آلموت "فلاديمير بارتول"

سمرقند "أمين معلوف"

صلاح الدين ومكائد الحشاشين "جورجي زيدان"

تلك الأعمال سواء كانت روائية أو وثائقية فقد قدمت صورة لم نكن نعرفها عن جماعة كل ما تبقى منها أطلال لقلعة قديمة وحكايات رويت عن أشخاص لم يبق منهم أحد..

أنا..يحيى (عام ١١١٢م):

كيف تحكم هذا الشيخ في حيوات أشخاص من داخل قلعة مخيفة تعتلي قمة الجبل وبات صراع السُنة والشيعة هو مدخله الخفي لإحتلال عقول الشباب الذين تم تجنيدهم ليصبحون أتباعه، وباتت مفاتيح الجنة وأنهار العسل والخمر التي شيدها هي عبقرية الشر التي إستخدمها لإستقطاب هؤلاء  الشباب في خدمة أغراضه..من هنا قررت أن أكتب عن "يحيى" لأنه البطل الحقيقي في قصص الحشاشين، حسن الصباح هو السيد الذي كتب عنه الجميع، لكن وماذا عن أتباعه ومُريديه؟ وماذا عن من خُدعوا وسلموا أحلامهم وعقولهم لسيد القلعة؟

بدأت في رسم شخصية يحيى في عقلي ووجداني..هذا الشاب الذي أرسله والده لينال شرف الإلتحاق بجماعة الحشاشين..ليكتشف القارئ مع الوقت أن دخول يحيى إلى القلعة ليس إلا رحلة للبحث عن حبييته (فرح ناز) التي قدمها أهلها لسيد القلعة لتنال هي الأخرى شرف خدمته، فالجنة التي يمتلك مفاتيحها تحتاج إلى حوريات لتكتمل الصورة كما جاءت ذكر آيات الجنة في القرآن الكريم!.

عشت مع يحيى بين السطور..مخاوفه داخل أسوار القلعة، قناعاته التي تبدلت، وأخيه "أميد" الذي كشف له عن وجه الحقيقة وحاول أن يدفعه للهروب، إلا أن دهاء الصباح وخوف يحيى جعلا بقائه داخل القلعة قدر لم يحاول تغييره في البداية.

أنا..نيلوفر (عام ١٩٦٩م): 

لم أخطط في بداية الفكرة لوجود نيلوفر لأن قلعة آلموت كان بها من الجاذبية ما يكفي لأكتب وأكتب، إلا أنني في لحظة صمت وجدت نفسي أتسائل: وماهو الجديد الذي سأقدمه بالكتابة عن حسن الصباح وقلعته السوداء؟ فكانت الإجابة حتمية: لا شئ!..

نعم..لا شئ! فالكتابة عن قصة حقيقية بنفس التفاصيل والأحداث والأماكن ستكون تكرار لما كتبوه من جاءوا قبلنا وبالطبع لمن سيكتبون بعدنا..فلو رويت التفاصيل بنفس القلم لن يكون هناك جديد..

تسمرت لأيام في مكاني وأصابتني حالة من الجمود التي عادة ما تصيب الكاتب لو تشتت ذهنه باحثا عن رد لسؤال مُحير: وماذا بعد؟

ماذا سأقدم للقارئ وأنا قلم يبحث دائما عن الجديد، عن حكاية لم تروى وعن حدث ألتقطه من منظور مختلف وبحثي؟

هنا أطلت علي نيلوفر من بين االسطور بوجهها الملائكي، الطفلة البريئة ذات الإحدى عشر عاما التي سُميت بهذا الإسم تيمنا بنبات مائي ذي رائحة ذكية فارتبط قدرها بالماء، قبل أن تربطها أقدارها بزوج أُمي المشاعر يكبرها بأربعين عاما..وقبل أن يُلقي القدر في طريقها "مراد" الشاب التي أحبته..وقبل أن يرتبط مصيرها بمصير أمها التي عنفها المجتمع وعنفها زوجها وقادتها التقاليد البالية إلى طريق مسدود لا فرار منه ولا بصيص نور..

إنها عروس شيراز..هكذا قررت أن أنسج من أحلام نيلوفر ثوب فرح مزركش وأطواق من الورود وأحلام في العشق لم تكتمل أبدا..

" أنا العروس الصغيرة         قلبي في شيراز 

  جئت من البلاد البعيدة       ومعي ألف تومان

  اشتريت بها كوخا            جدرانه من الحلوى وسقفه من السكر

  أنا..عروس شيراز           ضفائري طويلة

  أطول من نهر رودخانة     نصف قلبي مع حبيبي

ونصفه الآخر في شيراز"

سألقاكِ هناك:

هكذا تبلورت الرواية في ذهني..ثلاث سنوات وسبعة أشهر من البحث والكتابة والتدوين لتصدر الرواية في عام ٢٠١٧.

سنوات من البحث والقراءة والتخيل وجمع الصور حتى إكتملت الصورة..صورة لمكان ساحر هو أصفهان، صورة لفتاة عاشت قهر المجتمع الإيراني للمرأة وصوت واحد يهمس في أذنيها قائلا:

" سألقاكِ هناك"

لم يحدد المكان..ولم يحدد الزمان..لكن يقينها أنه سيلقاها..سيأخذها من عالمها الضيق إلى عالمه الرحب..هذا الصوت هو صوت "يحيى"..إسم يتكرر في حياة نيلوفر، فمرة هو الحبيب..ومرة هو الإبن..ومرة هو الفارس الذي يمد لها يدا حين تتعثر..

الرحلة هذا المرة هي رحلة إنسان..وهذا هو الجديد الذي قررت أن أقدمه لقارئي..فصول الرواية تنتقل ما بين يحيى ونيلوفر..نفس القصة بإختلاف الزمن..نفس المشاعر الإنسانية التي تشكل حياتهما من خوف وعشق وسعادة ووهم ورغبة وإنكسار وألم..

هكذا حملت عناوين الفصول ملامح القصتين بنفس الأفراح والأتراح إلى أن يلتقي يحيى بنيلوفر في زمان لم يجمعهما فيه المنطق ولكن جمعهما الحُلم..

ويأتي الفصل الأخير في الرواية بعنوان (أنا..القدر) حيث يكتب القدر خاتمة الرواية التي إرتحل معها القارئ في ٤٧٠ صفحة منتظرا لحظة اللقاء..

حكاية عنوان:

الحقيقة أنني منذ أمسكت القلم لأكتب كان هناك عنوانا واحدا يلح علي ويسكن وجداني، متجسدا في غلاف الرواية الذي رسمته في رأسي منذ أول سطر..

"حدائق أصفهان" عنوان يروي التفاصيل دون أن نقرأها ويغوص في المعنى الحقيقي للرواية ولجمال أصفهان الذي يتجسد في حدائق الورد التي كانت هدية الخلاص والحرية لنيلوفر.

ولأن عنوان أي رواية عادة هو سبب هام في نجاحها تسويقيا فقد كان هناك أسباب دعتني رغم قناعتي لتغيير هذا العنوان إلى (سألقاكِ هناك)..

المزج بين التاريخ والخيال في هذه الرواية جعلها تحتل بلا إستئذان قلوب القراء، فباتت هي الحصان الذي أراهن عليه ويقيني دائما أنه رابح..ببساطة إنها الرواية التي لم تخذلني يوما، فقد منحها القراء شرعية الوجود ومنحها النقاد مقعدا ذهبيا بين الروايات التي تحمل قيمة تاريخية سردية.

هنا أتذكر ما كتبه أستاذنا د.صلاح فضل رحمة الله عليه أستاذ النقد العربي تحت عنوان: 

" رشا سمير تخترق المجتمع الإيراني عبر الزمن"

في مقال رائع أضع كلماته وساما على صدري كتب يقول:

" لقد بذلت د.رشا جهدا منهجيا منظما ومرهقا في تبيئة روايتها لغويا وجغرافيا وأنثروبولوجيا في بلاد فارس، حيث عنيت بشرح الألفاظ والأعياد والتقاليد بتفاصيلها الدقيقة لتضع القارئ في الإطار الثقافي الملائم مما يكسب العمل أهمية معرفية في التقارب والتثاقف الملائم..لست أدري ما الذي أغرى المبدعة أن تخترق أحشاء المجتمع الإيراني منذ كان فارسيا في القرن الثاني عشر إلى القرن العشرين برواية مزدوجة القصة بعنوان "سألقاكِ هناك"  فتجرب صيغة جديدة تجمع بين حكايتين متباعدتين، يجهد القارئ طيلة أربعمائة صفحة في الحدس بالعلاقة بينهما فلا يعثر على أثر لذلك سوى قرب النهاية".

نهاية "آلموت":

عام ١١٢٤م لم يكن فقط هو عام وفاة الصباح ونهاية أسطورة الحشاشين، بل كان في الحقيقة يوم ميلاد يحيى حين منحته الحياة فرصة لغد جديد..يومها كتب لنيلوفر التي لم يراها أبدا يقول:

" اليوم إستطعت أن أهدم شبح قلعة آلموت في داخلي..ومحوت من ذاكرتي أشلاء ماضيها..

وها أنا اليوم أكتب لأروي لكِ قصتي..

ربما لم نلتق في زمان ما..

ولكن يقيني أنني..سألقاكِ هناك"

                                                   [email protected]