الإعداد النفسي للحج

إسلاميات



من أغلى الأماني التي تهفو إليها قلوب المسلمين زيارة الأراضي المقدسة و حج بيت الله الحرام، تلك الأماكن التي شرفها الله سبحانه و تعالى على سائر بقاع الأرض حيث ذكريات السير العطرة التي تمثل أرفع درجات العبودية الحقة، و هي عبودية الأنبياء بما تحمله من معاني الإيمان المطلق بكل مقوماته من طاعة و إمتثال في كل الأحوال و صبر و تحمل عند البلاء و حمد وشكر في السراء و الضراء بدءًا بسيرة خليل الله إبراهيم عليه السلام عندما نزل مكة المكرمة و معه فلذة كبده الغالية و بكره إسماعيل عليه السلام الذي وهبه الله إياه على الكبر بعد طول صبر و انتظار تحمله أمه السيدة هاجر و لما أمره الله بأن يغادر تاركا ولده مع أمه في ذلك المكان الذي كان موحشًا قفرًا خاليًا من الناس و من مقومات الحياة، فلم يتردد برهًة و لم تجادله السيدة هاجر أو تنكر عليه موقفه بل كانت المبادرة بالقول: آلله أمرك بهذا؟ إذًا فلن يضيعنا.

فأي إمتثال هذا و أي توكل؟ ثم تمر الأعوام و يحين للأبوة قطف الثمار عندما بلغ إسماعيل السعي، فيبتليان كلاهما مرة أخرى و يؤمر إبراهيم بالوحي المنامي بذبح ابنه فيمتثلان دون تردد، ثم يرسل لهما ربهما آية جديدة من آيات رحمته بعباده المخلصين و هو الفداء بذبح عظيم، ثم يصبح عيدًا للمسلمين على مر الزمان و يخلد ذكر آل إبراهيم خاصة بعيد الأضحى و بفريضة الحج التي تستمد كل شعائرها من تاريخ خليل الله و آله الذين كانوا رموزا للصبر و التحمل و الإذعان.

و إن كان الله تعالى قد شرف إبراهيم بإقامة الكعبة التي أصبحت مثابة للناس، فقد كرم السيدة هاجر بتخليد ذكرى سعيها بين الصفا و المروة بحثًا عن الماء بجعله شعيرة أساسية للحج كما كرم ابنها إسماعيل بشعيرة أخرى في نفس الفريضة و هي الأضحية التي جعلت سنة لعامة المسلمين في الموسم المبارك.

و تتوالى القرون ليكون هذا المكان نفسه لإحياء الملة الإبراهيمية الحنيفية السمحة على يد خير أحفاده و خير بني آدم أجمعين الصادق المصدوق محمد بن عبد الله صلى الله عليه و سلم، و تصبح مكة ميدانا لصراع جديد بين أنصار الحق و أتباع الباطل، و تتجلى من جديد أروع و أسمى مظاهر العبودية الخالصة لله و حده و تنتهي بتحقيق وعد الله بإظهار دينه على الدين كله.

إن إستحضار كل هذه المعاني الرائعة في الذهن هو أول خطوات إعداد النفس لحج مبرور.

فلو أن كل مسلم وعى مكانة الحج المبرور و معناه لأعد نفسه له طول العمر، أما عن مكانته فقد وضع بعد الإيمان و الجهاد في سبيل الله فقد روي « أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أيُّ العملِ أفضلُ ؟ فقال: إيمانٌ باللهِ ورسولهِ . قيل: ثم ماذا ؟ قال: الجهادُ في سبيلِ اللهِ . قيل: ثم ماذا ؟ قال: حَجٌ مبرورٌ» .الراوي: أبو هريرة . (صحيح البخاري ؛ لرقم: [26]) .

أما عن معناه فقد يغيب عن أذهان الكثيرين بدليل أن الملايين يحجون سنويًا ولكن كيف يكون حجهم حجًا مبرورًا؟ فالكل يذهب و النفس يملؤها الرجاء بغسل الذنوب و التطهر من كل الأثام، بل أن البعض يتوهم أن مجرد وطأ الأراضي المقدسة يحقق لهم هذه الأمنية دون أدنى شرط، ولكن الأمر ليس كذلك بالطبع، و الكتاب و السنة يشهدان بذلك و يضعان للمغفرة الكاملة شروطًا فقد قال تعالى: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّـهُ ۗوَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } [ البقرة الأية : 197]

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:

«مَن حجَّ هذا البيتَ، فلم يَرفُثْ، ولم يَفسُقْ، رجَع كيومَ ولدَتْه أمُّه» لراوي: أبو هريرة المحدث: البخاري - المصدر: (صحيح البخاري ؛ رقم: [1819]) . وهذا هو معنى الحج المبرور.

فهو ينطوي على معنى عميق، وهو جهاد النفس، فجهاد النفس هو أول مشقة يكابدها المسلم منذ بداية إدراكه فيكبح جماح نفسه و يحبسها عن مستقبح الأفعال و يبذل معها الجهد و المعاناة ليحملها على فعل المستحسن منها حتى لو خالف ذلك هواه، و كلما كبر و زاد وعيه و إدراكه لحجم المسؤولية الملقاة على عاتقه و هول الأمانة التي حملها الله إياها و شرف العمل الذي يقوم به و عظم الجزاء الذي ينتظره كما جاء بجريدة الوطن القطرية عام 2000 - زاد حجم المجاهدة و الوصف الذي وصف به الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم يجمع بين عظم القدر و عظم الجزاء.

و هذا يعني أن الوفاء بشروطه ليس بالأمر الهين؛ فهو يتطلب قبل الإعداد المادي إعداد النفس ولا يعني أن الجهاد لن يبدأ إلا بعد الوصول للأراضي المقدسة ولا يعني كذلك أن البداية تكون منذ شد الرحال و إنما قبل ذلك فالنفس البشرية ليست ماكبنة تعمل بالتحكم الآلي؛ بحيث أن يكون من الممكن أن يطلب من إنسان منغمس في المعاصي-حتى و إ ن صغرت- أن يكف عنها لأن السيارة قد بلغت حدود الدولة السعودية أو أن الطائرة قد حاذت الميقات، فهذا مخالف لطبيعة البشر فالنفس مفطورة على التدرج حتى تعتاد و تألف الصواب.

و لعل المخالفات الكثيرة التي تحدث أثناء أداء فريضة الحج خلافًا لشعائر الفريضة ذاتها أخطاء يأباها الشرع في كل زمان و مكان مثل الأنانية وسرعة الغضب و كل أشكال عدم ضبط النفس سواء في القول أو الفعل، كذلك الجهل بالأحكام الشرعية مثل كيفية أداء الصلاة على وجهها الصحيح أو حدود العورة الواجب تغطيتها أمام الأخرين

و غيرها من الأمورمثل غض البصر وغض الصوت و حسن الخلق ولين الجانب و اجتناب الرذائل بأنواعها.

فإذا كان الحج مثل الصوم يمنع بعض المباحات في غيره فما بالنا بالمحرمات؟

ولعل هذا يكشف لنا إحدى الحكم الإلهية من كون الصوم يسبق الحج إذ أن المسلم يكون قد خرج من دورة تدريبية تربوية ليست بالقصيرة وقد تعلم كيف يكون مسلما بحق معدا للتعامل مع منهج الله في كل زمان ومكان.