شيماء أحمد تكتب: حكايات "عسافية" على بحر غزة (الحارة)

الفجر الفني

بوابة الفجر


"ها أنا أقف على التراب.. تراب الأرض.. بلادي تحملني.. رُغم غربتي مازالت تحتضنني".

أفتح عيناي بشكل متباطئ مع نسيم الهواء البارد الذي يضرب في وجهي ليُعلن عن صباح جديد في أرض العزة "بلدي غزة".

 

أنظر إلى ستارة شرفتي وهي تتمايل يمينًا ويسارًا وكأنها تركت كل همومنا وأوجاعنا وقررت أن تطير مثل الحمام الأبيض في الصباح أو تغدو مثل أمواج البحر ترقص فتُشعل النار في قلوب العاشقين.

أسمع هدير الماء يترقرق من صنبور منزلنا مع رائحة البيض المقلي في منزل جيراننا، لتزقزق معدتي الصغيرة التي إشتاقت إلى طعام المنزل وتصرخ في "استيقظ ياعساف ألم يساورك الحنين؟.

نعم.. يساورني الحنين، يخالجني شعور غريب بأن أترك كل شئ ورائي وأعود لأحتضن وسادتي فالإشتياق كاد يقتلني، أشتاق لحضن أمي الدافئ ورائحتها التي لو غرقت في بحور من المسك ما كانت تضاهيها.

 

وفي منزلنا فطور فلسطيني لن تجد له مثيل، فلقد جُبت العالم بأكمله، أتذوق الطعام في الصباح كل يوم في بلد غريب، الكل  يشبه بعضه رغم اختلاف الأمكنة، ولكن زيتنا وزعترنا لن تجد له مثيل، فنحن نفتح أعيننا للحياة ونجدهما موجودان في بيوتنا.

زعترنا وزيتوننا ليس كما يراه الغريب فينا مغالاة وحب مفرط، وإنما هو ذاكرة البلاد الأولى، وهرم الصبر في القلوب، وحلم العودة .. ليس كما يراه الغريب وإنما هو البلاد بكامل رونقها وبهائها وحنينها، فما دام فينا الزيتون، لا نسيان قد يشوب تلك القضية أو يلوث إخضرار البلاد .

 

حارتنا "الحاووز" سُميت بهذا الاسم تيمنًا بحاووز الماء الذي يعلو قمتها، أطل من نافذة غرفتي لأشاهدها، هل يقف أحد غيري في النافذة ليشاهد حارته؟ أم أن الاشتياق يعصر قلبي ألمًا فيجعل نبضاته متسارعة وأنفاسي متقطعة.

أسمع صوت بائع المياه "زوزو" وهو ينادي "المية الحلوة" فأضحك بشكل هيستيري وتترقرق عيني بالدموع حزنًا على كل لحظة أعيشها بعيدًا عن هذا الدار، بعيدًا عن حارتي التي فيها طفولتي وصباي، طفولتي المسلوبة، فالأطفال يلعبون بالألعاب ونحن بالقنابل والحجارة والرصاصات.

 

 

وفي حارتنا صوت المياه المتدفق من الحاووز الكبير، زامور حافلات المدارس مع أصوات الأطفال وهم يتسارعون لإستقلالها.. ضحكاتهم المتقطعة وعيونهم البريئة التي لاتعلم الغدر ولكنها تعيشه كل لحظة في اليوم.

وفي حارتنا أتجول بين البيوت، فكل ركن فيها لي ذكرى، هنا أتلفت سيارة أبي لأول مرة، وهنا تعلمت مسك الحجارة واللعب بالقنابل، وهنا غازلت فتاة مدرسة الإعدادية بإبتسامة خجولة لترد علي بالمثل فيطير قلبي معلنًا عن قصة حب يهيم بها في بحور العاشقين.

 

 

وفي حارتنا كانت اجتماعات الأصدقاء، أذهب مسرعًا لأتفقدهم واحدًا تلو الآخر، أطل على الأستاذ ياسر عمر مدرس اللغة العربية لأستمع إلى ألحانه الشيقة فأجد صوتي يُبحر في الغناء ولا يستطيع أحد أن يوقفه.

 

أذهب بعدها إلى منزل "أبوعلاء" مجلس الأصدقاء كله يجتمع هناك في جلسة سمر حتى الصباح، نغني ونتحدث في كافة الأشياء ونقبض بأناملنا على كئووس الشاي الممزوج بالميرمية آآآه لو تعلمون كيف اشتقت إليها فالكثير من بلداننا العربية لايعرفون شيئًا عن الميرمية.

نُشعل سيجارةِ تلو الأخرى، ومع كل واحدة نضحك ونتذكر كيف كنا وكيف أصبحنا، كيف أصبحت أنا أملًا للشباب الفلسطيني، كيف ابتعدت عن أهلي وأحبتي لأعيش في عالم غريب تملأه المصالح والأعمال، ولكن ماذا أفعل فلتحقيق الحلم أثمان.

 

جبت العالم بأكمله ولكن تبقى حارتنا هي ملاذي ومرآة عيني، هي فتاتي التي أتغزل بها فلا تغفل عيني إلا على ابتسامتها الساحرة ولا يسكن الهدوء قلبي إلا بين أحضانها.


لقراءة الجزء الأول حكايات "عسافية" على بحر غزة (العودة)

اضغط هنــــــــــــــــــــــــا