تفسير الشعراوي للآية 14 من سورة النساء

إسلاميات

الشيخ محمد متولي
الشيخ محمد متولي الشعراوي


{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)}.

وسبحانه قال من قبل: {تِلْكَ حُدُودُ الله} والحدود إما أن تبين الأوامر وحدها وإما أن تبين النواهي وحدها. فهي شاملة أن يطيعها الطائع أو يعصيها العاصي.

فإن كنت تطيع فلك جزاء الطاعة وتأخذ الجنات والخلود والفوز العظيم. لكن ماذا عمن يعصي؟ إن له المقابل، وهذا هو موقفه وجزاؤه أن له العذاب. {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} هنا نجد {نَاراً} واحدة، وهناك نجد {جَنَّاتٍ}. هذا ملحظ أول، وإذا كنا منتبهين ونقبل على كتاب الله، ونعرف أن المتكلم هو الله، فإننا نجد الملحظ الثاني وهو خلود للمؤمنين في الجنات، أما الكافر فسيدخل النار. ولم يقل الحق نيرانا، ولم يقل الحق أيضا: (خالدين) لماذا؟ لأن المؤمنين سيكونون في الجنة على سرر متقابلين، ويتزاورون، وكل واحد يستمتع بكل الجنان، وأيضا إن المرء إذا كان له من عمله الصالح الكثير وقصر أولاده الذين اشتركوا معه في الإيمان، فإن الحق سبحانه يلحق به ذريته ويكون هو وذريته في النعيم والجنان كرامة له. فتكون الجنات مع بعضها وهذا أدعى للإنس.

ولكن الموقف يختلف مع الكافر، فلن يلحق الله به أحدا وكل واحد سيأخذ ناره، وحتى لا يأنسوا مع بعضهم وهم في النار، فالأنس لن يطولوه أيضا، فكل واحد في ناره تماما مثل الحبس المنفرد في زنزانة. ولن يأنس واحد منهم بمعذب الآخر. إذن فهناك {جَنَّاتٍ} و{نَار} و{خَالِدِينَ} و{خَالِداً}، وكل استخدام للكلمة له معنى. والطائع له جنات يأتنس فيها بذريته وإخوته أهل الإيمان ويكونون خالدين جميعا في الجنات، أما العاصي فهو في النار وحده خالدا {وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}.

إن العذاب يكون مرة أليما، ومثال ذلك أن يؤلم واحد عدوه فيتجلد عدوه حتى لا يرى شماتة الذي يعذبه. ويقول الشاعر:
وتجلدي للشامتين أريهمو *** أني لريب الدهر لا أتضعضع
فيكتم الألم عن خصمه، لكن هذا في الدنيا، أما في الآخرة فهناك إهانة في النفس، فعذاب الله يجمع الألم والإهانة، إياك أن تفهم أن هناك من يقدر على أن يتجلد كما يتجلد البشر عند وقوع العذاب في الدنيا- إن عذاب الآخرة مهين ومذل للنفس في آن واحد.

وهكذا نجد أن المرحلة الأولى من سورة النساء عالجت وحدة الإنسان أبا، ووحدته أما، وعالجت كيف بث الله منهما رجالا كثيرا ونساء. وعالجت السورة أيضا ما يطرأ مما يجري به قدر الله في بعض خلقه بأن يتركوا أيتاما ضعافا، وأنه سبحانه أراد استبقاء الحياة الكريمة للنفس الإنسانية؛ لذلك طلب أن نصنع الخير والمودة مع اليتامى، ووضع أسلوب التعامل الإيماني معهم، وأن نكون أوصياء قائمين بالعدالة والإرادة الحسنة العفيفة لأموالهم، إلى أن يبلغوا سن الرشد فيتسلموها.

وأيضا عالجت السورة أمراً آخر وهو استبقاء الحياة الكريمة للنساء والأطفال ضمن النسيج الاجتماعي. ذلك أن العرب كانوا يمنعون النساء من الميراث، ويمنعون- كذلك- من الميراث من لم يطعن برمح ولم يضرب بخنجر أو سيف ولم يشترك في رد عدوان. فأراد الله سبحانه لهذه الفئة الذليلة المضطهدة أن تأخذ حقها ليعيشٍ العنصران في كرامة ويستبقيا الحياة في عزة وهمة وفي قوة، فشرع الحقُ نصيباً محدداً للنساء يختلف عن نصيب الرجال مما قل أو كثر، وبعد ذلك استطرد ليتكلم عن الحقوق في المواريث. وأوضح سبحانه الحدود التي شرعها لهذا الأمر، فمن كان يريد جنات الله فليطع الله ورسوله فيما حدّ من حدود. ومن استغنى عن هذه الجنات فليعص الله ليكون خالدا في النار.

إذن فالحياة الإنسانية هبة من الله لعباده، ومن كرمه سبحانه أن أوجد لها- قبل أن يوجدها- ما يقيم أود الحياة الكريمة لذلك الإنسان المكرم، فوفد الإنسان على الخير، ولم يفد الخير على الإنسان، أي أنّ الحق سبحانه لم يخلق الإنسان أولاً ثم صنع له من بعد ذلك الشمس والقمر والأرض والعناصر. لا، لقد خلق الله هذه العناصر التي تخدم الإنسان أولاً وأعدها لاستقبال الطارق الجديد- الإنسان- الذي اختاره سبحانه ليكون خليفة في الأرض، فالخير في الأرض الذي نستبقي به الحياة سبق وجود الإنسان، وهذه عناية من الحق الرحمن بمخلوقه المكرم وهو الإنسان. وجعل الله للإنسان وسيلة للتكاثر وربطها بعملية الإمتاع، وهذه الوسيلة في التكاثر تختلف عن وسائل التكاثر في الزروع والحيوانات، فوسيلة التكاثر في كل الكائنات هي لحفظ النوع فقط.

وأراد سبحانه وتعالى أن يكون الإمتاع مصاحباً لوسيلة التكاثر الإنساني، ذلك أن المشقَّات التي يتطلبها النسل كثيرة، فلابد أن يجعل الله في عملية التكاثر متعة تغري الإنسان.

وأراد الحق سبحانه بذلك أن يأتي بالضعاف ليجعل منهم حياة قوية.

ويوصينا الحق باليتيم من البشر، وقد يقول قائل: ما دام الحق سبحانه وتعالى يوصينا حتى ننشئ من اليتيم إنساناً قوياً وأن نحسن إلى اليتيم، فلماذا أراد الله أن يموت والد اليتيم؟. نقول: جعل الحق هذا الأمر حتى لا تكون حياة الإنسان ضربة لازب على الله، إنه يخلق الإنسان بعمر محدد معروف له سبحانه ومجهول للإنسان، فالإنسان قد يموت جنيناً أو طفلاً أو صبياً أو رجلاً أو هرمًا، بل نحن نجد في الحياة إنساناً هرماً مازال يحيا بيننا ويموت حفيد حفيده، لماذا؟.

لأن الله أراد أن يستر قضية الموت عن الناس، فلا معرفة للإنسان بالعمر الذي سوف يحياه ولا بزمان الموت، ولا مكان الموت، حتى يكون الإنسان منا دائماً على استعداد أن يموت في أي لحظة.

وما دام الإنسان يعيش مستعدا لأن يموت في أي لحظة، فعليه أن يستحي أن يلقي الله على معصية. وأيضا لنعلم أن المنهج الإيماني؛ منهج يجعل المؤمنين جميعاً كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، فإذا مات رجل وترك طفلاً يتيماً، ووجد هذا اليتيم آباء من المجتمع الإيماني، فإن المنهج الإيماني يستقر في قلب اليتيم اطمئناناً ويقينًا، ومن حكمة الموت ألا يفتن أحد في أبيه أو في الأسباب الممنوحة من الله للآباء، بل نكون جميعا موصولين بالله.
وما دام الحق سبحانه قد وضع لنا الأسباب لاستبقاء الحياة، ووضع لنا أسلوب السعي في الأرض لتستبقي الحياة بالحركة فيها، فقد وضع أيضا الوسيلة الكريمة لاستبقاء النوع وجعل من حركة الأصل ما يعود على الفرع، فلم يُغر الله الإنسان وحده بالحركة لنفسه، ولكن أغراه أن يتحرك في الحياة حركة تسعه وتسع من يعول، ويوضح الحق للإنسان: أن حركتك في الأرض ستنفع أولادك أيضًا.

ولذلك أوجد الله سبحانه في نفس كل واحد غريزة الحنان والحب. ونحن نرى هذه الغريزة كآية من آيات الله متمكنة في نفوس الآباء. ولهذا يسعى الأب في الحياة ليستفيد هو وأولاده. والذي يتحرك حركة واسعة في الحياة قد يأتي عليه زمان يكفيه عائد حركته بقية عمره؛ لأنه تحرك بهمة وإخلاص؛ وأفاء الله عليه الرزق الوفير، وقد يتحرك رجل لمدة عشرين عاماً أو يزيد ويضمن لنفسه ولأولاده من بعده الثروة الوفيرة، وهناك من يكد ويتعب في الحياة ويكسب رزقاً يكفيه ويكفي الأبناء والأحفاد.

وهكذا نجد الذين يتحركون لا يستفيدون وحدهم، فقط ولكن المجتمع يستفيد أيضاً. وتشاء حكمة الله العالية بأن يفتت الثورة بقوانين الميراث لتنتشر الثروة وتتوزع بين الأبناء فتشيع في المجتمع، وهذا اسمه التفتيت الإنسيابي، كأن نجد واحداً يملك مائة فدان وله عدد من الأبناء والبنات. وبعد وفاة الرجل يرث الأبناء والبنات كل تركته، وهكذا تتفتت الثروة بين الأبناء تفتيتاً انسيابياً وليس بالتوزيع القهري الذي يُنشئ الحقد والعداوة، ويريد الحق أن نحترم حركة المتحرك، وأن تعود له حركة حياته ولمن يعول فقال سبحانه: {إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد: 36].

هو سبحانه لا يقول لأي واحد: هات المال الذي وهبته لك. وقلت سابقا: إنه سبحانه وتعالى يحنن عبداً على عبد فيقول: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11].

إن الله سبحانه يحترم حركة العبد، ويحترم ما ملك العبد بعرقه، ويوصي الحق العبد الغني: إن أخاك العبد الفقير في حاجة، فأقرضني- أنا الله- بإعطائك الصدقة أو الزكاة لأخيك الفقير. ولم يقل للعبد الغني: أقرض أخاك، ولكنه قال أقرضني. لماذا لأنه سبحانه هو الذي استدعي الخلق إلى الوجود، وهو المتكفل برزقهم جميعًا.

المؤمن منهم والكافر. ولذلك ضمن الرزق للجميع وأمر الأسباب بأن تستجيب حتى للكافر، لأنه سبحانه هو الذي استدعاه للوجود.
وسبحانه وضع هذا التوريث، ليصنع التفتيت الإنسيابي للملكية حتى 
لا يأتي التفتيت القسري الذي يجعل بعضاً من الأبناء وقد نشأوا في نعمة وأخذوا من مسائل الحياة ما يريدون، وعندما يأتي عليهم هذا التفتيت القسري، يصبحون من المساكين الذين فاجأتهم الأحداث القسرية بالحرمان، فهم لم يستعدوا لهذا الفقر المفاجئ. لكن عندما يأتي التفتيت الانسيابي فكل واحد يعد نفسه لما يستقبله، وبذاتية راضية وبقدرة على الحركة، ولذلك قال الحق: {إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد: 36].

إنه سبحانه لا يقول: أنا الذي ملكتك هذا المال، ولا أنا الذي رزقتك هذا الرزق، مع أنه سبحانه هو الذي ملكك ورزقك هذا المال حقا ولكنه يوضح لك حقك في الحركة، فيقول بعد ذلك: {إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد: 37].

ولو ألح عليك فأنت تبخل بها لأنك جنيتها بتعب وعرق. ولكن ما الفرق بين إنسان لم يسرف على نفسه، بل عاش معتدلا، ثم أبقى شيئاً لأولاده؛ والذي جاء بدخله كله وبدده فيما حرمه الله وأسرف على نفسه في المخدرات وغيرها، ما الفرق بين هذا وذاك؟

الفرق هو احترام الحق سبحانه لأثر حركة الإنسان في الحياة، لذلك يوضح: أنا لا أسألكم أموالكم، لأني إن سألتكم أموالكم فقد تبخلون، لأن مالكم عائد من أعمالكم.

ويقول الحق: {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} وإذا ظهر وخرج الضغن في المجتمع فالويل للمجتمع كله؛ ولذلك نجد أن كل حركة من هذه الحركات القسرية ينشأ منها بروز الضغن في المجتمع كله، وساعة يبرز الضغن في المجتمع، انتهى كل شيء جميل. ولذلك وضع الحق أسس ووسائل استبقاء الحياة الكريمة.

وضع أساس للضعيف بما يحميه، وكذلك للنساء اللاتي كن محرومات من الميراث قبل الإسلام، وجعل الحق سبحانه وتعالى لتوريث الأطفال والأبناء والنساء حدوداً {تِلْكَ حُدُودُ الله} وإياكم أن تتعدوا هذه الحدود؛ لأن الإنسان إذا ما تعدى هذه الحدود، فلابد أن يكون من أهل النار- والعياذ بالله- فقد وضع الله تلك القواعد لاستبقاء حياتك ويحاة من تعول.

وهناك لون آخر من الاستبقاء، هو استبقاء النوع، لأن الإنسان عمراً محدوداً في الحياة وسينتهي؛ لذلك يجب أن يستبقي الإنسان النوع في غيره، كيف؟ نحن نتزوج كي يرزقنا الله بالذرية والبنين والحفدة وتستمر حلقات، وهذا استبقاء للنوع الإنساني.

والحق يريد أن يكون الاستبقاء للنوع كريماً؛ لذلك يأمرنا الحق سبحانه أن نستبقي النوع بأن نختار له الوعاء الطاهر، فإياك أن تستبقي نوعا من وعاءٍ خبيثٍ نجس، اختلطت فيه مياه أناس متعددين، فلا يدري أحد لمن ينسب الولد فيصير مضيعاً في الكون، مجهول النسب فأوضح الله للإنسان أن يختار لنفسه الوعاء النظيف ليستبقي النوع بكرامة.

والحصول على الأوعية النظيفة يكون بالزواج، فيختار الرجل أنثى عفيفة ذات دين وترضي به زوجاً أمام أعين الناس جميعاً، ويصير معروفا للجميع أن هذه امرأة هذا، وهذا زوجها، دخوله وخروجه غير ممقوت أو موقوت. وما ينشأ من الذرية بعد ذلك يكون قطعا منسوبا إليه. ويخجل الإنسان أن يكون ابنه مهينا أو عاريا أو جائعا أو غير معترف به؛ لذلك يحاول الأب أن يجعل من ابنه إنساناً مستوفيا لكل حقوقه مرفوع الرأس غير مهين، لا يقدحه واحد فَيَسُّبُهُ وينال منه قائلا: جئت من أين؟ أو من أبوك؟ فلا يعيش الطفل كسير الجناح ذليلا طوال عمره. فأراد سبحانه استبقاء النوع برابطة تكون على عين الجميع، وأن تكون هذه الرابطة على الطريق الشرعي.

ومن العجيب أننا نجد هذه المسألة ذات آثار واضحة في الكون، فالتي تحاول أن تزيل أثر جريمتها يجبرها الحنان الطبيعي كأم ألا تلقي ابنها الوليد في البحر بل أمام مسجد؛ فالطفل مربوط بحنان أمه ولكن الحنان غير شرعي ولذلك ترمي الأم الزانية بطفلها أمام المسجد حتى يلتقطه واحد من الناس الطيبين، فالزانية نفسها تعرف أنه لا يدخل المسجد إلا إنسان طيب قد يحن على الوليد ويأخذ هذا الطفل ويصير مأمونا عليه.

وهي لا تلقي بوليدها عند خمارة أو دار سينما، ولكن دائما تضعه عند أبواب المساجد، فالحنان يدفعها إلى وضع الطفل غير الشرعي في مثل هذا المكان؛ لأنها تخاف عليه، لذلك تلفه وتضعه في أحلى الملابس، وإن كانت غنية فإنها تضع معه بعضا من المال؛ لأن الحنان يدفعها إلى ذلك، والحياء من الذنب هو الذي يجعلها تتخلص من هذا الطفل.

إنها- كما قلنا- تحتاط بأن تضعه في مكان يدخله أناس طيبون فيعثر عليه رجل طيب، يأخذه ويكون مأمونا عليه. إذن فحتى الفاسق المنحرف عن دين الله يحتمي في دين الله؛ وهذا شيء عجيب.

والله يريد أن يبني بقاء النوع على النظافة والطهر والعفاف ولا يريد لجراثيم المفاسد أن توجد في البيوت؛ لذلك يشرع العلاقة بين الرجل والمرأة لتكون زواجا أمام أعين الناس. ويأخذ الرجل المرأة بكلمة الله.

وأضرب هذا المثل: نحن نجد الرجل الذي يحيا في بيت مطل على الشارع وله ابنة وسيمة والشباب يدورون حولها- ولو عرف الرجل أن شابا يجيء ويتعمد لينظر إلى ابنته فماذا يكون موقف الرجل من الشاب؟ إن الرجل قد يسلط عليه من يضربه أو يبلغ ضده الشرطة ويغلى الرجل بالغيظ والغَيْرة.

وما موقف الرجل نفسه عندما تدق الباب أسرة شاب طيب يطلبون الزواج من ابنته؟ يفرح الرجل ويسأل الابنة عن رأيها، ويبارك للأم ويأتي بالمشروبات ويوجه الدعوات لحفل عقد القرآن، فما الفرق بين الموقفين؟

لماذا يغضب الأب من الشاب الذي يتلصص؟ لأن هذا الشاب يريد أن يأخذ البنت بغير حق الله، أما الشاب الذي جاء ليأخذ الابنة زوجة بحق الله وبكلمة الله فالأب يفرح به وينزل الأمر عليه بردا وسلاما.

وبعد ذلك يتسامى الأمر، ويتم الزفاف ويزور الأب ابنته صباح الزفاف ويرغب أن يرى السعادة على وجهها.
إن الفارق بين الموقفين هو ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: "الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم لا تكلفوهم ما لا يطيقون، الله الله في النساء فإنهن عَوانٍ في أيديكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله".

وما دام الله هو الذي خلق الرجل والمرأة وشرع أن يجتمعا وتكون كلمة الشاب: (أريد أن أتزوج ابنتك) بردا وسلاما على قلب الأب، ويكون الفرح والاحتفال الكبير؛ لأن هذه مسألة عفاف وطهر. والله يريد أن يجعل استبقاء النوع الإنساني استبقاءً نظيفا لا يُخجل أن تجيء منه ولادة، ولا يخجل منه المولود نفسه، ولا يُذَم في المجتمع أبدا، إذا استبقينا النوع بهذا الشكل؛ فهذا هو الاستبقاء الجميل للنوع. واستبقاء النوع هو الذي تأتي من أجله العملية الجنسية وأراد الله أن يشرعها حلالا على علم الناس ويعرفها الجميع.

وقد سألني سائل وأنا في الجزائر: لماذا تقوم العلاقة بين الرجل والمرأة على كلمات نحو: (زوجتك موكلتي، أو تقول هي: زوجتك نفسي) ويقبل الرجل، وتنكسر العلاقة بكلمة (أنت طالق)؟ وأجبته: لماذا يستبيح الرجل لنفسه أن يمتلك بضع الزوجة بكلمتين؟ ويستكثر أن تخرج من عصمته بكلمتين؟ فكما جاءت بكلمة تذهب بكلمة.

إن الحق سبحانه وتعالى كما استبقى الحياة بالعناصر التي تقدمت، يريد أن يستبقي النوع بالعناصر التي تأتي، وأوضح لنا أن كل كائن يتكاثر لابد له من إخصاب، والإخصاب يعني أن يأتي الحيوان المنوي من الذكر لبويضة الأنثى كي ينشأ التكاثر، والتكاثر في غير الإنسان يتم بعملية قسرية.

ففي الحيوانات نرى الأنثى وهي تجأر بالصوت العالي عندما تنزل البويضة في رحمها كالبقرة مثلا، حتى يقول الناس جميعا: إن البقرة تطلب الإخصاب، وعندما يذهب بها صاحبها إلى الفحل ليخصبها تهدأ، ولا تمكن فحلا آخر منها من بعد ذلك، وهكذا يتم حفظ النوع في الحيوانات.

أما في النباتات؛ فالأنثى يتم تلقيحها ولو على بعد أميال. ونحن نعرف بعضا من ذكور النبات وإناثها مثل ذكر النخل والجميز، لكننا لا نعرف التفريق بين ذكورة وأنوثة بعض النباتات، وقد يعرفها المتخصصون فقط، وبعض النباتات تكون الذكورة والأنوثة في عود واحد كالذرة مثلا؛ فالأنوثة توجد في (الشراشيب) التي توجد في (كوز) الذرة، وعناصر الذكورة توجد في السنبلة التي يحركها الهواء كي تنزل لتخصب الأنوثة، وكذلك القمح.

وهناك أنواع من النباتات لا نعرف ذكورتها! بالله أيوجد أحدٌ عنده ذكر مانجو أو ذكر برتقال؟

إذن هناك أشياء كثيرة لا نعرفها، لكن لابد من أن تتلاقح إخصابا لينشأ التكاثر، فيوضح ربنا: اطمئنوا أنا جعلت الرياح حاملة لوسائل اللقاح، يأخذ الريح اللواقح إلى النباتات، والنبات الذي يكون تحت مستوى الريح يسخر الله له أنواعا من الحشرات غذاؤها في مكانٍ مخصوصٍ من النبات وله لون يجذبها، حشرة يجذبها اللون الأحمر، وحشرة يجذبها اللون الأبيض؛ لأن الحشرة تذهب للذكورة فيعلق بها حيوان الذكورة، فتذهب إلى الأنثى المتبرجة بالزينة، وهذه العملية تحدث ولا ندري عنها شيئا.

من الذي يلقح؟ من الذي يعلمها؟ إنه الله القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، فاستبقى لنا الأنواع غريزيا وقسريا، بدون أن نعرف عن الكثير منها شيئا، حتى المطر لا يمكن أن ينزل إلا إذا حدثت عملية تلقيح. ولذلك يقول الحق: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 22].

إذن الحق قد استبقى لك أيها الإنسان أنواع مقومات حياتك بما لا تدريه، وجعل هذه المسائل قسرية بحيث يؤدي كل كائن وظيفته وتنتهي المسألة، لكن حين كان لك اختيار، وتوجد مشقات كثيرة في الإنجاب وحفظ النوع، فقد قرن سبحانه حفظ النوع بالمتعة، وإياك أن تعزل حفظ النوع عن المتعة، فإن أخذت المتعة وحدها فقد أخذت الفرع وتركت الأصل، فلابد أن تفعلها لحفظ النوع المحسوب عليك.

إذن فإياك أن تلقي حيوانك المنوي إلا في وعاء نظيف، محسوب لك وحدك كي لا تنشأ أمراض خبيثة تفتك بك وبغيرك، ولكيلا ينشأ جيل مطموس النسب، ولكيلا يكون مهينا ولا مدنسا في حياته؛ فإياكم أن تأخذوا قضية حفظ النوع منفصلة عن المتعة فيها.

ولذلك- فسبحانه- سيتكلم عن المرأة عندما تتصل بامرأة بالسحاق، أو الرجل يكتفي بالرجل باللواط للمتعة، أو رجل ينتفع بامرأة على غير ما شرع الله. فعندما تنتفع امرأة مع امرأة، وينتفع الرجل بالرجل للاستمتاع، نقول لها: أنت أيتها المرأة أخذتِ المتعة وتركتِ حفظ النوع، وأنت يا رجل أخذت المتعة وتركت حفظ النوع، والحق يريد لك أن تأخذ المتعة وحفظ النوع معا. فيوضح سبحانه أنه لابد أن تكون المتعة في ضوء منهج الله.

واسمعوا قول الله: {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة...}.