بطرس دانيال يكتب: الوقت من ذهب

مقالات الرأي

بطرس دانيال
بطرس دانيال


ذات يوم طلب أحد الأشخاص مقابلة المأمون ليعرض عليه ما وصل إليه من مهارةٍ وبراعة، وبكل ترحاب سمح له بالدخول، وبعد التحية والسلام بدأ الرجل فى تصويب إبرة تجاه الحائط فغرزت فيه، ثم فعل ذلك بخمسين إبرة أخرى على التوالى، فكانت كل واحدةٍ تدخل فى ثقب التى سبقتها. مما لا شك فيه أنه نال إعجاب المنصور بمهارته فى التصويب، لذلك أمر له بصرف مائة دينار ومائة جلدة، فارتعب الرجل! مما لا شك فيه أنه فهم سبب المكافأة، لكن لم يستوعب مغزى العقوبة. فقال له المنصور: «مكافأة الدنانير لبراعتك، وأما الجلدات نتيجة إهدارك الوقت فيما لا ينفع!». ما أكثر الموهوبين من الأطفال والشباب الذين يبشّرون بمستقبلٍ باهر لبلادهم ولعائلاتهم ولأنفسهم، لما يتحلّون به من ذكاءٍ ومواهب وهبات منحهم إياها الله، وبالرغم من أن ذويهم ومعلّميهم يوفّرون لهم الفرص المؤاتية لتساعدهم على استغلال هذه الإمكانيات واستثمارها، لكنهم بسبب سوء استعمال الوقت، واهتمامهم المفرط باللهو بدلاً من العمل الجاد والتحصيل، ينطفئ ذكاؤهم وتموت مواهبهم حتى أنهم يصبحون أشخاصاً غير جادين لا رجاء فيهم. وهذا ما يُطلق عليه: الفراغ، أى ساعات أو أيام نبددها دون هدف أو فائدة، لكن إذا كان لدينا وعى المتفوقين والحكماء لوجدنا فى هذه اللحظات ثروات لا تُقَدّر بثمنٍ نستطيع أن ندّخرها من أجل مستقبلٍ باهر. ويقول داود النبى: «يارب، علّمنا أن نُحصى أيامنا فَتبلُغ الحكمة قلوبَنا» (مزمور 12:90). لقد هيأ لنا الله كل يوم فرصا عظيمة لا تُحصى لتكوين وتهذيب أنفسنا والحفاظ على مستقبلنا من الهوان، ذلك بالاستثمار الحقيقى للوقت وتنمية مواهبنا وإمكانياتنا فى كل لحظة، لأن كل يوم نصل إليه هو ينبوع حياة يتدفّق فى الكيان، وميلاد عزيمة جديدة لتقوية الذات، ومغامرة فريدة لاكتساب الخبرة، وفرصة عظيمة لنُضج الإنسان، ونبتة جديدة فى جوهر الشخصية. وكما تقول الحكمة القديمة: «احفظ اليوم، لأن الأمس ما هو إلا حُلم، والغد رؤيا فقط. لكن اليوم إذا قضيناه كما يجب، سيجعل من كل أمسٍ حُلماً للسعادة ومن كل غدٍ رؤيا أمل ورجاء، إذاً حافظ على اليوم بقدر المستطاع». للأسف، تعوّدت الغالبية العُظمى منّا أن تفقد اليوم من بين أيديها، أو تقضيه وعينها فى المستقبل أو كلها حنين للماضى، لكننا جميعاً مدعوون أن نستغل اليوم لنجنى ثماره الدفينة وقوته الداخلية وفوائده الأكيدة. كم من المرات نجد فيها العديد من الأشخاص الذين لا يقدّرون اليوم الذى بين أيديهم، أو اللحظة التى تعود عليهم بالخير عندما يستثمرونها، لكنهم يتطلعون أحياناً إلى حُلم المستقبل، وأحياناً أخرى يشتاقون إلى ماضٍ ولّى، ومن هذه الخبرة نكتشف أن التطلع للمستقبل دون الاهتمام بالحاضر يولّد عدم رضا وخيبة أمل، لأن المستقبل الحقيقى ينمو من اليوم ومما زرعناه فى الحاضر. كما أن الحنين للماضى يولّد كسلاً وخمولاً وإحباطاً وحسرة، وخلاف ذلك نعيش اليومَ دون أن نقدّر قيمته ونحياه بطريقة عشوائية ونشغل وقتنا بأمورٍ لا جدوى فيها، كل هذه الأشياء تعوقنا عن استثمار الوقت فى معناه الحقيقى. يقول الفيلسوف الألمانى أرتور شوبنهاور: «إن الحاضر فقط هو واقع حقيقى وأساس الوقت وجوهره، كما أن فيه يتجه مستقبل حياتنا، لذلك يجب أن نعى جيداً بأن اليوم يصلنا مرةً واحدة فقط لا غير». فاليوم هو عنصر ثرى ومتعدد الفوائد، كما أنه خير وسيلة لتأمين مستقبل باهر باستغلال مواهبنا، وكما يقول الإنجليز: «الوقت من ذهب». أعطانا الله هذه النعمة العظيمة، فماذا نحن فاعلون بها؟! أتكون وسيلة نجاح وتهيئة مستقبل عظيم، أم وسيلة هدم عندما لا نستغلها أو ندخرها؟ كم من المرات فقدنا فيها الحاضر من بين أيدينا لأننا لم نصونه؟ إذاً يجب علينا أن نعى جيداً بأن الماضى صار بخاراً والمستقبل لم يأتِ بعد، وكما نقرأ فى القول المأثور: «نحن نعيش بقدمٍ فى الأمس والأخرى فى الغد، نادراً ما نقف فى الحاضر على القدمين متحدتين معاً». كم من المرات لا نقدّر الوقت بالمكيال الحقيقى، ونظن بأننا عندما نمتلك الوقت، نستطيع أن نقضيه كما يجب؟ فنجد الشخص الذى يهدر الوقت فى أشياء لا معنى لها، يتخيّل بأنه يملك وقتاً كافياً، لكن من يستخدمه بالطريقة الصحيحة يخاف من ضيق الوقت ويتمنى الحصول على مزيد منه لتحقيق مشاريعه وأحلامه. ونختم بالقول المأثور: «إذا ما مضى يوم ولم أكتسب أدباً... ولم أستفد علماً، فما ذاك من عمرى».