خذ بيد أخيك وأدخله الجنة

إسلاميات



إن من أحط أنواع الكذب وأسوأ أنواع الظلم أن يُنْعَت الإسلام بأنه دين العنف مع أنه الدين القائم على الرفق كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأن يُنْعَت الإسلام بالقسوة والغِلْظَة مع أنه قائم على محور الأخلاق الإنسانية كما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)).

وليت شعري ما الذي حدا بشعوب جنوب شرق آسيا وبالناس في الأندلس أن يتجهوا إلى الإسلام سلماً وأن يتعشقوه. إنهم لم يتعشقوه إلا لهذه المزايا الإنسانية العظيمة التي رأوه فيها. ومن ثَمَّ فإنهم لم يعتنقوه ولم يُخْلِصوا في إيمانهم به والتزامهم به إلا لهذه المزايا الذاتية التي تتلألأ فيه.

ولئن كان في المسلمين اليوم من شَرَدوا عن تعاليم الإسلام ومَن أعرضوا عن كثير من مبادئه فذلك شأن عائد إليهم، وما ينبغي للعاقل أن يظلم الإسلام الذي تَنَزَّل من عند الله عز وجل صافياً عن الشوائب، ما ينبغي أن يُظلم الإسلام بسبب إعراض بعض المسلمين عنه.

إننا أيها الإخوة إن عدنا إلى تعاليم كتاب الله سبحانه وتعالى وإلى الكثير الكثير من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدنا ذلك كله غذاءً للإنسانية، دفعاً للإنسان المسلم إلى أن يكون إنسانياً في سلوكه مع عباد الله، وأن يكون رفيقاً معهم، وأن يهيمن على قلوب الناس عن طريق الإحسان إليهم، وعن طريق المسامحة لهم، وعن طريق مواصلة - لا أقول الأرحام فقط، بل الناس جميعاً. تلك هي تعاليم ديننا، وتلك هي وصايا ربنا سبحانه وتعالى لنا في محكم تبيانه، وتلك هي نصائح المصطفى صلى الله عليه وسلم لنا.

اسمعوا أيها الإخوة إلى هذه التعاليم المكررة التي يُنَبِّهنا إليها المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيما يتعلق بالرفق، وفيما يتعلق بصلة الرحم، وفيما يتعلق بضرورة مد جسور الصِّلات الإنسانية مع الآخرين؛ يقول المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما يرويه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)).

انظروا بل اسمعوا إلى كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ يقول فيما اتفق عليه الشيخان أيضاً من حديث أنس رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحب أن يُبْسَطَ له في رزقه وأن يُنْسَأ له في أَثَره)) أي: أن يُزَاد له في عُمُره. ((فليصل رحمه)). والرحم: شبكة القُربى التي تصل الإنسان بأطراف الناس الذين يتصلون به بأي قرابة من القرابة، كل ذلك يدخل تحت كلمة الرحم. وانظروا إلى قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ يقول فيما صح عنه: ((إن الصدقة وصلة الرحم تزيدان في العمر وتدفعان عن العبد ميتة السوء وتدفعان عنه المكروه والمحذور)).

وقد روى أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله تعالى: أنا الله وأنا الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته)).

وربما قال قائل من الناس؛ إن قرابتي فيهم من يقطعني أو فيهم من يظلمني أو فيهم من يسيء إليّ. فيعكف على قطيعته ظانّاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما دعا إلى صلة الرحم على أساس التكافؤ في المعاملة، ولكن الأمر ليس كذلك؛ المحسن في قاموس كتاب الله عز وجل ليس هو المكافئ وإنما هو ذاك الذي يبادر بالإحسان إلى من يسيء إليه.

يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري من حديث أنس أيضاً: ((ليس المواصل بالمكافئ ولكن المواصل هو الذي إذا قُطِعَت رحمه وصلها))، ليس المواصل للرحم ذاك الذي يجعل من صِلّة الرحم كفاءة صلةِ الآخرين له، وإنما الذي يَنْدُبُنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أن نُحْسن إلى من يسيء، هو أن نتجاوز ظلم الظالمين وأن نكون مثال الرفق بهم ((ليس المواصل بالمكافئ ولكن المواصل من إذا قُطعت رحمه وصلها)).

وما لنا ننسى كتاب الله سبحانه وتعالى الذي ما رأيته يصف المؤمنين في آية من آي كتابه المبين إلا ويصفهم قبل كل شيء بحُسْن الخُلُق، بالرفق، باللطف. ذلك هو كلام ربنا سبحانه وتعالى. عندما نقرأ كلام الله سبحانه وتعالى عن المتقين يُخَيَّل إلينا أنه إنما يريد بالمتقين أولئك الذين يكثرون من الصلاة آناء الليل وأطراف النهار، يكثرون من العبادة وأداء حقوق الرب القائمة فيما بينهم وبينه. ولكن اسمعوا كيف يصف المتقين: {وَسارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها السَّماواتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرّاءِ}… [آل عمران : 133-134] هذه هي صفات المتقين: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرّاءِ وَالضَّرّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}… [آل عمران : 133-134] تلك هي الصفات الأولى التي يضعنا بيان الله سبحانه وتعالى أمامها تجسيداً لحال من سماهم الله سبحانه وتعالى المتقين.

وأنا ما رأيت - أيها الإخوة - تهديداً ووعيداً في كتاب الله سبحانه وتعالى لمن يَشْرُد عن هديه ولمن يَتِيه عن صراطه كهذا التهديد الذي قرأته في كتاب الله، لِمَنْ؟ لمن يقطع رحمه، لمن يسيء إلى قرابته. يقول الله عز وجل: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصارَهُمْ}… [محمد : 22-23].

الحقَّ أقول لكم أيها الإخوة، أنني ما وصلت وأنا أتلو كتاب الله عز وجل إلى هذه الآية إلا وأخذني من هذا الكلام ما يشبه القشعريرة. وأعود فأتأمل أهذا كله من أجل أن إنساناً أساء إلى أقاربه، أساء إلى أرحامه، قطع صلة القربى الإنسانية بينه وبينهم؟! فكيف يكون وعيده إذن لمن يسيء إلى حقوق الله؟ لا. إن حقوق الله مبنية على المسامحة، ولكن حقوق العباد هي المبنية على المُشَاحَّة. عودوا فتأملوا في هذا البيان أيها الإخوة. انظروا ماذا يفعل هذا الكلام بالنفس؛ نفسِ من يعلم أن هذا كلام الله {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصارَهُمْ}.

وربما قال قائل: ولكنّ فلاناً لا أحبه، أو إن فلاناً من قرابتي أو من جيراني أو من أصدقائي لا أشعر بالوُدّ الذي يُعِيْنُني على الاتصال به أو الإحسان إليه. لا. يقول له الإسلام: إنك إذن إنما تبحث عن طاعة نفسك تنتظر أمراً صادراً من غرائزك. إذا قالت لك الغريزة واصل فلاناً لأني أحبه واصلته، وإذا قالت لك غريزتك ولكن فلاناً أكرهه، قاطعته. أين هي طاعة العبد للرب إذن؟ طاعة العبد للرب إنما تتجلى في أن تنظر إلى فلان من الناس وليس بينك وبينه جسور من حب، ولا صِلاتٌ من وُدّ. بل ربما تشعر بأنك تكرهه. ولكنك تنظر إلى بيان الله الذي يأمر بالإحسان؛ الذي يأمر بكظم الغيظ؛ الذي يأمر بالعفو؛ الذي يأمر بصلة القربى. فتقول: سمعاً وطاعة لك يا رب إنني إذ أقيم هذه الصِلات وأَمُدّ جسور الوُدّ بيني وبين هؤلاء لا أستجيب في ذلك لغريزتي، وإنما أستجيب في ذلك لحُكْمِك.

هذا هو ديننا أيها الإخوة يدور على محور الإنسانية. إن أمر فأمره غذاء للإنسانية والخُلُق الكريم. إن نهى فنهي الله عز وجل تحذير لجُرْح الإنسانية أو الإساءة إليها، وانظروا إلى هذا المشهد الذي يصفه لنا نبينا المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما يرويه الحاكم في مستدركه بسند صحيح وغيره من حديث أنس رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا: ((رجلان من أمتي يجثوان يوم القيامة بين يدي رب العزة، يقول أحدهما للآخر: أي رب، خُذْ لي مظلمتي من هذا، فيقول له الله سبحانه وتعالى للظالم: أعط أخاك حقه. فيقول: يا رب لقد نَفَدَت حسناتي. يقول الله سبحانه وتعالى للمتظلم: ماذا تفعل بأخيك وقد نفدت حسناته؟ يقول: يا رب! فليتحمل عني من أوزاري - وهنا فاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدمع، وقال: إنه ليوم عظيم. ذاك اليوم الذي يحتاج فيه الناس إلى أن يُحَطَّ عنهم من أوزارهم - يقول الله عز وجل للمتظلم: انظر إلى الأعلى، ماذا تجد. فيُرِيْه الله سبحانه وتعالى من مظاهر الجنة ما يأخذ بالألباب. فيقول: أيْ رب، لمن هذه القصور، ولمن هذه المُتَع؟ لأي نبي ولأي صِدِّيق؟ فيقول الله عز وجل: لمن يدفع الثمن. يقول المتظلم: ومَنْ ذا الذي يملك الثمن؟ يقول الله: أنت. يقول: كيف يا رب؟ يقول: بعفوك عن أخيك. يقول المتظلم: فقد عفوتُ عنه يا رب. يقول الله عز وجل: خُذ بيد أخيك وأدخله الجنة)). هذا هو ديننا أيها الإخوة. وهذا هو الوعد الجميل الذي يَعِدُنا الله عز وجل به عن طريق رسوله إذا قام الناس غداً لرب العالمين.

واللهِ الذي لا إله إلا هو إن العبد لو ملأ الأرض عبادة لله عز وجل وأساء في علاقته إلى إخوانه وذوي رحمه والناس أياً كانوا؛ فلسوف يَقْدُم على الله عز وجل وقد غاضت طاعاته كلها. وإن العبد الذي يؤدي فرائضه ولا يزيد على ذلك شيئاً ولكنه يعامل الناس جميعاً بما أوصاه الله عز وجل به؛ ألا وهو الرفق. يَمُد جسور القربى، يمد جسور الوِداد، يمد جسور الإحسان. يتعامل معهم على هذا النحو الذي ذكرته لكم الآن، والذي يدعونا إليه كتاب الله، وتدعونا إليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إلا أدخله الله سبحانه وتعالى في رحمته الواسعة؛ وإن لم يؤدِّ من الواجبات والطاعات والعبادات إلا الفرائض المكتوبة.

ومع ذلك فإن الإسلام - ولا أقول المسلمين - يُتَّهَم بالعنف اليوم. ألا ما أحطَّ هذا الكذب، وأسوأ هذا الافتراء. ومَنْ؟ مَن الذين يتهمون إسلامنا بهذا؟ هم أحفاد أولئك الذين عشقوا الإسلام بالأمس؛ في الأندلس. ما الذي جعل تلك البقعة الواسعة من البلاد الأوروبية تتعرف على الإسلام فتتعشقه فتعانقه؟ ما الذي دفعهم إلى هذا؟ هل أريقت قطرة دم باسم الجهاد هناك؟ هل لُوِّحَ بعصا أو بسلاح أو بسيف أو بسنان لأولئك الكفرة في تلك البقاع؟ لم يَحْصُل شيء من هذا قط. لكن ما الذي حصل؟ نظر أولئك الناس وهم يتطوحون في ظلمات جهالاتهم وسوء أخلاقهم. نظروا فوجدوا ثلة من الملائكة يمشون على الأرض، جاؤوا إليهم؛ أخلاق إنسانية رائعة، رفق، وُدٌّ، إحسان، رحمة، مغفرة. رأوا هذا كله متمثِّلاً في أشخاص أناس ذهبوا من شرق هذا العالم الإسلامي إلى تلك البقاع فتعشقوا الإسلام. وسرعان ما أقبلوا إليه، وسرعان ما اتسعت دائرة الإسلام في تلك البقاع. وأساس ذلك كله واحد ومعه ثُلة من إخوانه اسمه عبد الرحمن الداخل. عشقوا الإسلام لهذا الذي ذكرته لكم فتعلقوا به واعتنقوه. وهؤلاء الذين يتهمون إسلامنا اليوم بنقيض ذلك هم أحفاد أولئك الناس، هم أدرى الناس بهذه الحقيقة، ومع ذلك فإن قائلهم ليقول ولكأنه يعيش في عالم غير هذا العالم، يقول متحدثاً عن الإسلام ينعته بالعنف والغِلظة والإساءة. ينعته بما شاء من النعوت المناقضة لكلام الله سبحانه وتعالى. أما الله عز وجل فيقول لنا: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَما يُلَقّاها إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقّاها إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}… [فصلت: 34-35].

أيها الإخوة: ارفعوا رؤوسكم اعتزازاً وعالية بهذا الدين الذي شَرَّفكم الله سبحانه وتعالى به. واصطبغوا بتعاليمه. اصطبغوا بتعاليمه أخلاقاً. اصطبغوا بتعاليمه إحساناً، تَوَدُّداً كما أوصانا كتاب الله وكما أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم. واعلموا أن من أراد أن يقي نفسه من مِيْتة السوء، وأُعِيد: واعلموا أن من أراد أن يقي نفسه من ميتة السوء فليتخذ إلى ذلك سبيلاً من صلة القربى، يُعَمِّرُها بالوُد بينه وبين أرحامه. وليعلم الذي يُعرِض عن هذا الذي نَبَّهَنا إليه رسول الله فيسيء بدلاً من أن يُحْسِن أنه مُهَدَّد بميتة السوء.